المجتمع المأزوم سؤال الديـــــن والتسامـــــح

0

يقول (أريك هوڤر) في كتابة “المؤمن الصادق 2010م” إن المتطرف يَعُد أي قضية يعتنقها قضية مقدسة، وليس بالإمكان إبعاده عنها بالمنطق والنقاش. وهل صحيح؛ كما كان يُحاجج (هربرت ماركوز) منذ بداية هذا القرن أن “كل ما يمارس اليوم تحت اسم التسامح هو، في معظم تجلياته الواقعية يخدم اسباب الاضطهاد”؟ إذا كانت كل الديانات؛ بلا استثناء تدعو الى التسامح والمحبة والسلام، فلماذا تنتشر الفوضى والحرب والقتال والتطرف والإرهاب؟، ولماذا يتم مسخ الأخر المعارض الى الشر المحض، ولماذا يقتل البشر بعضهم بعضاً باسم العقيدة والمذهب والدين؟! ولماذا تلجأ الجماعات البشرية إلى الدين لتبرير أعمالها الإرهابية كقطع الرؤوس وحرق البشر وهم أحياء مثلما فعلت مع الطيار الاردني معاذ الكساسبة أمام وسائل الإعلام كما تفعل القاعدة والتنظيمات المتفرعة عنها مثل داعش أو قطع الأصابع كما فعلت طالبان أفغانستان مع الذين شاركوا في الانتخابات أو طالبان باكستان بقتل (132) طفل في مدرسة في بيشاور أو خطف النساء والفتيات كما فعل تنظيم (بوكو حرام) في (نيجيريا)،و داعش في العراق ، وما الذي يدفع البشر إلى التطرف والارهاب؟ وكيف يصوغ الدين علاقاتنا مع انفسنا، ومع الآخر، وقد يحاجج قائلٌ مُنبت بأن كل اتباع الديانات خاصة السماوية قد فعلوا ذلك في فترات مختلفة من الزمان والمكان، لكن السؤال لماذا يفعلها اتباع الدين الإسلامي بهذا الشكل وهذه القسوة رغم أن أتباعه ما انفكوا يدّعون بأنه دين المحبة والتسامح، وبهذه الحقبة الزمنية من سيرورة العولمة؟ واعتقادي أنّ الدين الإسلامي مثل بقية الأديان -السماوية تحديداً- تحوّل مع سيرورة التطور إلى مجرد إيديولوجية مبهمة تخلو من العمق السياسي والاجتماعي، غير مركزية (وان كانت تبدو كذالك) ماضويّة متعبة شاحبة، ورخوة قابلة للتاويلات، ثم نبتت له مخالب وأنياب قواطع وسلطة مطلقة وجبروت أمتص نسغ السلطة القهريّة من النص الديني، وفي فترة مبكرة جداً من الزمن وتحديداً بعيد وفاة الرسول محمد (ﷺ) ثم تبع ذلك وبشكلٍ متسارع ٍجدا أن تحول بجهد منظم ومدروس من بعض النخب والسلطة المستفيدة وبهدف الاستمرارية في السلطة وإجازة أجندات خاصة تحفظ بقاءها، الى وحشٍ كاسر ثم إلى مسخ (فرانكشتاين) لم يفلح في إنجاب إلا “غلمان أشآم كلهم”؛ جلبو الدمار والقهر والبؤس عبر متوالية هندسية من: الاغتيالات وقطع الرؤوس والأطراف والسَحل والتهجير القسري للبشر والنخاسة، والاغتصاب والتجارة بالاعضاء البشرية حتى تهريب الاثار التاريخية والاختطاف والإستعباد ثم العمليات الانتحارية والتفجيرات، وحرق البشر أحياء. ثم نتج عن ذلك أن هذه (الإيديولوجية) المرعبّة أخذت شكلها وعمقها مع سيروة التطور وانسلخت عن الدولة كسلطة قهرية وحيدة، وأصبحت آلية أو أداة سهلة الاستخدام والتوظيف من قبل مجاميع كبيرة من الأطراف الفاعلة الدول التي تستخدمها “كقوة صلبة” في المناطق التي لا تستطيع فيها هذه الأطراف المجازفة والظهور فيها لظروف مختلفة. وأنا على قناعة تامة؛ وأوافق (ماغنوس نوريل) الباحث في معهد (واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أن أهم دافعٍ للكثير من العنف القائم على الإسلاموية هو قناعة دينية راسخة ومتينة جداً. وأن التجارب أثبتت أن الفكرة القائلة أنّ الناشطين الذين يقودون كل هذه التنظيمات يتعرضون لغسل دماغ أو أنهم فقراء وعاطلون عن العمل هي فكرة خاطئة، ليس هذا فحسب، بل هي في غالب الأحيان طريقة ابتدعها الغرب لمحاولة التقليل من شأن الدوافع الدينية للعنف الإسلامي، وهذا هو الخطأ الذي يستمر باقترافه الغرب العلماني و(الليبرالي) الموجّه نحو الفرد، وتتمثل حصيلة ذلك في عجز متواصل عن رؤية بعضٍ من القوى المحفزة التي تكمن خلف العنف الإسلامي المتشدد والمسلح، وبذلك تزيد صعوبة التعامل مع هذا الأخير ويستحيل تقريباً تغيير ولو بنسبة ضئيلة من هذه النزعة التي لا تنفك تشهد مغادرة الأفراد من الغرب للانضمام للجهاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكذلك في آسيا الغربية والوسطى. إن الدين حينما يلتبس السياسة أو العكس، يتحول الى منتجٍ مدمر لكل قيم التسامح والرحمة والشفقة وتبتعد الأسباب الأخرى للتطرف والغلو والإرهاب إلى الوراء، ذلك أنّ هناك كثيراً من الدول والمجتمعات التي تعاني الفقر والفاقة، وتتردى بها مؤشرات التنمية المتعارف عليها عالميا بيد أنها لا تعاني التطرف والغلو والإرهاب في المقابل، وهناك دول ومجتمعات أخرى تتربع على قمة مؤشرات العولمة و الرخاء الاقتصادي والتنمية وتعاني من الإرهاب الداخلي أو المحلي أو الإرهاب ذي المنشأ المحلي وهي عرضة ومكشوفة للإرهاب العالمي. كل ذلك نتيجة أن الدين -بشكلٍ عام– عبر ادعاء القداسة واحتكار الصواب هو الأكثر قدرة على إنتاج سلسلة تداعيات لا نهائية من النرجسية والأنانية والكراهية وبناء جدران صلبة وسميكة وعالية من التمييز بين البشر في مصفوفة معقدة من نحن، والآخر ونحن وهم وهكذا. والحقيقة أن التطرف يزدهر عبر استغلال معاناة الناس ويأسهم، ثم إنّ الصراع والتطرف الديني يهدد الإنسانية جمعاء بمساعدة آليات العولمة وخاصة (التكنولوجية)وخطورة المنظومة الفكرية المتطرفة التي تحرك الجماعات التكفيرية التي تكمن في شعبيته الواسعة جداً وفي إجماع الشباب عليه ضمن مجموعات عالمية متخطية للحدود الوطنية وتتمتع بالتمويل الواسع المتعدد المصادر ولديه القدرة الهائلة والمستمرة على الإقناع والتجنيد وذلك بفضل آليات العولمة التكنولوجية. ويؤكد وليد عبد الحي -أستاذ العلاقات الدولية و الدراسات المستقبلّية في جامعة اليرموك المملكة الاردنية الهاشمية – بأن الإيمان الديني-في أي دين- يتسم بحصانة معرفية يطمئن لها صاحبها وتثري هذه الحصانة تراكمات تراثية وخبرات تاريخية تيسر مرونة هائلة في التكييف المعرفي للتغيرات المجتمعية في شتى الميادين، فإذا علمنا أن هناك أربعة أديان كبرى (المسيحية:32%، الإسلام 23%، (الهندوسية) 15%، (البوذية) 7% وأن هناك حوالي (21) ديانة أخرى يشكل أتباعها حوالي (12%)، بينما يصنف حوالي (11%) من الذين لا يتبعون أي دين”اللادينيين”، فإن خريطة العلاقة الصراعية بين هذه الأديان شكلت جزءاً هائلاً من فصول التاريخ البشري، غير أن رصد العلاقة بين هذه المجموعات الدينية يشير إلى ثلاثة أنماط من الصراع الذي أفرزته: صراع بين دين ودين: كالصراع بين الإسلام والمسيحية أو (الهندوسية)، أو الصراع بين (الهندوسية) و(البوذية) أو بين اليهودية والمسيحية. صراع داخل كل دين: إذ إن أغلب الأديان عرفت ظاهرة التشظي؛ سنة وشيعة في الإسلام، و(كاثوليك) و(بروتستانت) في المسيحية. صراع بين كل الأديان والعلمانيين: ففي كل مجتمع هناك متدينون وعلمانيون وبينهم تنافر حاد يصل أحيانا إلى حد المواجهة. وتتمثل المشكلة الكبرى في أن أتباع كل دين لديهم قناعة تامة ومطلقة بأنهم على حق، وأن الآخر هو دونه –بغض النظر عن توصيف هذه الدونية- فالأديان التي تصف نفسها بأنها سماوية، يبلغ عدد أتباعها ما بين (50-56%) من سكان العالم (تتباين الإحصاءات من جهة لأخرى)، لكن ذلك يعني أن هناك ما بين (45-50%) من سكان العالم لا يؤمنون بهذه الأديان ولا يقبلون “سماويتها”، كما أن أتباع الأديان السماوية ينظرون للأديان الأخرى بنفس الطريقة ويرون أنها دونها في درجة الهداية والإيمان. وعند النظر في حجم العنف في الحروب الدينية يتبين من الدراسات التاريخية أن الأديان خاضت ضد بعضها أو فيما بين طوائفها حوالي (143) حرباً كبرى، وحوالي (270) حرباً طائفية متوسطة وصغرى خلال ألفي عام، أبرزها مثلا: حرب الثلاثين سنة (1618-1648) بين (الكاثوليك والبروتستانت) التي وصل عدد القتلى فيها إلى حوالي (7) ملايين قتيل، بينما قتل في الحرب الأهلية (الفرنسية) بين (الكاثوليك والبروتستانت) في نهاية القرن السادس عشر حوالي (3) ملايين، وأدت الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين إلى مقتل حوالي (3) ملايين ناهيك عن حروب السنة والشيعة و(الهندوس) و(البوذيين). مع ذلك فإن كل هذه الأديان تدعو للمحبة والسلام، ففي الإسلام “إن الله لا يحب المعتدين” وفي المسيحية “من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر”، وفي (الطاوية) “الجندي الجيد هو الجندي الذي لا يحارب”، و من يقتل لأي سبب لا يجد في القتل سعادة وفي (الكنفوشية) وفي اليهودية “إذا وصلت مدينة فاعرض السلام على أهلها أولا”، “لماذا نقتل بعضنا إذا كنا نقف على نفس الأرض وتظللنا ذات السماء وتشرق علينا ذات الشمس″ . إن الأديان تجعل أتباعها ينظرون “بتعالٍ” إلى أتباع الأديان الأخرى، كما تُقدم مبرراً أخلاقياً لأتباعها في استخدام العنف ضد خصومهم، ويرسم كل دين صورة مشوهة للدين الآخر، فالمسلمون يعتقدون أن (الهندوس) يعبدون البقر، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق، والمسيحي يصور الإسلام بطريقة معينة يقابلها صورة إسلامية للمسيحية وهكذا اليهودية، وكافة الأديان في مواجهة بعضها، لذا سيبقى الصراع بين دين ودين، وداخل الأديان، وبين الأديان والعلمانيين. ذلك يعني أن ما نراه في واقعنا الإسلامي العربي المعاصر من تفجير مساجد وحرق كنائس وتنابز بين العلمانيين والدينيين ليس إلا تكرارا لظاهرة عرفتها كل المجتمعات وفي كل المراحل، مع فارق وحيد وهو أن بعض المجتمعات اكتشفت معادلا أخلاقياً لإدارة الخلاف والنزاع بدلا من العنف بينما نحن نصرّ على ثبات النمط التاريخي لإدارة النزاع″. ولقد جدت أن الدين يجعلنا متميزين ومختلفين عن الآخرين أولاً وقبل كل شيء، قبل الدعوة الى المحبة والسلام ومكارم الأخلاق، ثم إن هذا الاختلاف المختلط بالنرجسيّة عن الآخر الذي يساعد على نشره آليات العولمة هو الحاجز الأول في وجه المحبة والتسامح والسلام الذي تدعو له كافة الديانات، وهو ما يدفع الى الحرب والتطرف والإرهاب، هذا على الرغم من أن الدراسات الكمًية تؤكد أنّ سيرورة العولمة قد وضعت مزيداً من القيود على الحريات والشعائرالدينية في العالم بدلاً من توسيع رقعة التسامح بين الديانات، وهذا أدى بدوره إلى بروز ظاهرة التطرف وتداعياته. لكن هناك عوامل أخرى أيضاً تؤدي إلى التطرف الديني فهو لم ينشأ بلا مقدمات، بل له من الأسباب والدوافع الكثير، ومعرفة تلك الدوافع والمحركات على غاية من الأهمية، لأنها مفتاح الفهم والتحليل الموضوعي والدقيق. وتمتد الأسباب والدوافع، ابتداءً من الشخصية (السيكولوجية) التي تتعلق بالإحباط والنرجسية واليأس والشعور بالتهميش وعدم الأهمية والدونّية والهواجس الداخلية للأفراد حتى تصل إلى أعلى درجات التعقيد والتشابك في الأسباب السياسية والثقافية الاقتصادية والاجتماعية والدينية، والبنى الفكرية والعمليات التعليـــمية و(الأيديولوجية)، والمعضلة الماثلة أمامنا هنا أن كل هذه الأسباب مجتمعة تنفخ فيها وتعظمها رياح العولمة خاصة عبر آلياتها التكنولوجية المختلفة، ولفهم ذلك؛ تتسارع المدارس الفكرية والنظريات وكل منها يحاول تقديم الحلول وتوظيف الحالة حسب معطياته ووجهات نظره. والحقيقة أنه ومنذ هجمات (11/أيلول/2001م) الإرهابية – تحديداً- والإسلام كدينٍ وحضارةٍ أو ايديولوجية متهمٌ بشكل واسع وعميق عولميا بأنه دينٌ إرهابي وغير متسامح اطلاقا ويشجع على التطرف، وإلغاء الأخر، ثم انه وللاسف ؛ يقدم الدليل اثر الدليل الذي لا يدحض كل يومبأنه كذلك.

 

الدكتور سعود الشرفات مدير عام مركز شرفات لدراسات العولمة والارهاب \عمان .الأردن

saud_shar55@yahoo.com

saud_shar62@hotmail.com


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply