مقاربات في نقد خطاب التطرف الديني والإرهاب

0

رغم حجم التوحش وإراقة الدماء والقتل والتدمير الممنهج الذي وصل درجة قتل الابن لوالدته، واستهداف الأماكن المقدسة، وفي شهر رمضان؛ ما يزال عالمنا العربي والإسلامي -عموماً- يرفض بشدة الاعتراف بظاهرة أو مرض التطرف الديني. لا بل ينشغل بدلاً من ذلك بدوامة من “الخداع المعرفي” في البحث عن أعراض المرض وليس أسبابه المتمثلة في الفكر (الأيديولوجيا) القادر على إنتاج هذه المتوالية من “فيروسات” المرض.
وقبل البدء بمحاربة الأصولية الإسلاموية المتطرفة والفكر التكفيري الإرهابي، أرى أن العالم العربي والإسلامي في معظمة تقريبا يعيش ما يسمى بحالة “الإنكار”.
ومن المخيب للآمال أنّه على الرغم من إشارات جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المتكررة، في الكثير من خطاباته وكلماته (لعل آخرها كلمته في مركز الدراسات الإسلامية في الجامعة الكاثوليكية في مدينة لوفان ببلجيكا، في 18 أيار (مايو) الماضي)، إلى التشخيص الحقيقي لمشكلة التطرف الديني، بأنها “مشكلة؛ وحرب داخل الإسلام في المقام الأول”، فإنه لم يتم البناء على هذه الإشارات معرفيا وثقافيا حتى الآن كما يجب.
وأرى أنه لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار عدداً من الأفكار الأولية كمدخل لمحاولة تحليل وفهم هذه الظاهرة.
– الفكرة الأولى: ضرورة التركيز على أهمية الفكر (الأيديولوجيا) والإيمان المطلق بالفكرة والاستماتة في الدفاع عنها عن وعي وتخطيط وفهم تام واضح وعميق. ولعل الأخطر من ذلك، أن حملة هذا الفكر لا يضرهم إطلاقا وصفهم بالمجرمين أو العصابات أو القتلة. وهم يدركون جيدا آليات العمليات الإرهابية، والهدف منها، ألا وهو نشر حالة مستمرة من الرعب والخوف، تؤدي إلى تغيرات في بنية الدولة والمؤسسات المستهدفة، ثم تغيرات وتحولات في سلوك الدولة ومؤسساتها.
– الفكرة الثانية: أهمية عدم الاستخفاف والاستهانة والحط من شأن حملة هذا الفكر، ثم محاولة شيطنة أصحابه؛ وكفى المؤمنين شر القتال. خاصة وأن الخطاب الديني في المؤسسات الرسمية العربية والإسلامية ينهل من المصدر نفسه، بل -للأسف الشديد- لا يكاد يختلف كثيراً عن خطاب “داعش” إلا في الشكليات.
– الفكرة الثالثة: التأكيد على الاحتمال الكبير بفشل الحوار مع أصحاب هذا الفكر؛ وفي النهاية لن يفضي -ربما- هذا الحوار إلا إلى نتائج بسيطة، في مقابل فوائد أكبر لأصحاب هذا الفكر؛ أقلها إثبات الوجود والتوسع بالتجنيد والانتشار، حتى خارج حدود الفضاء الإسلامي أو ما يطلق عليه العالم الإسلامي. ولعل نجاحات “داعش” في فرنسا وبلجيكا وأميركا، أحدث دليل على ذلك.
– الفكرة الرابعة: لمحاربة هذا الفكر والقضاء عليه، لا بد من وجود مقاربات موازية له، وليس مواجهة له أو معارضة أو منافسة له، تقوم على بناء منظومة واسعة وعميقة ومقنعة وذات جدوى من المصالح والعلاقات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعبر عن مصالح الناس وتدفعهم للدفاع عنها وحمايتها، بدل تشتيت الجهد في منافسات طابعها “اللعبة الصفرية”، ثم خسارة أطراف اللعبة كافة.
– الفكرة الخامسة: أهمية الوعي بأن هناك قطاعاً طفيلياً واسعاً وعريضاً يتكسب من وراء الرطانة الواسعة حول محاربة التطرف أو مكافحة الإرهاب، يشمل أطرافاً فاعلة من غير الدول، من خبراء وأكاديميين، وشيوخ ووعّاظ، ومحللين وكتاب، ومنظمات غير حكومية، ومراكز بحث ودراسات، ومرتزقة، وشركات حماية، ومجمّعات صناعية وبالذات شركات تصنيع الأسلحة والذخائر، وتجارة المخدرات… وصولاً إلى الأطراف الفاعلة من الدول، وهي القادرة على بناء التحالفات الدولية وتحريك الجيوش والطائرات والصواريخ. وهذا القطاع الطفيلي الواسع له مصالح ببقاء هذا الوحش طليقا لأن وجوده مرتبط عضوياً ومصالحياً بهذا القطاع.
أعتقد أنّ المشهد السياسي العربي والإسلامي سيبقى يراوح مكانه على المديين المتوسط والطويل. وستكون أجندة التطرف الديني والإرهاب حاضرة في ثنايا هذا المشهد طالما بقيت المنطقة في جدل عقيم، يختصر في فسطاطين مراوغين وملتبسين جداً: المقاومة والجهاد من جهة، والإرهاب من جهة ثانية، ومحاولة التفريق بينها. وبين هذين الفسطاطين يتشكل المشهد السياسي العربي الراهن، وفي ضوء تفاعلهما وتطورهما يتشكل مستقبله.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن البديل أمام الأمة العربية والإسلامية تحديدا لمواجهة التطرف والإرهاب ليس صراع الحضارات والثقافات، ومحاولة إلغاء الآخر وتكفيره، بل برنامج عمل إنساني من أجل الحضارة الإنسانية، وبأننا في هذا العصر أكثر ملاءمة لاختيار سراطات مستقيمة متعددة ومختلفة، ولتجاوز الأيديولوجيات والنماذج المعرفّية الجامدة وتأسيس نماذج أكثر سماحة وإقناعاً وثراءً للبشرية جمعاء من دون تمييز في الدين والجنس والعرق واللغة.

 

د. سعود الشرفات

مدير مركز شرفات لدراسات العولمة والارهاب iraq-car-bombing

  • تم نشره في الأربعاء 13 تموز / يوليو 2016. 12:00 صباحاً في صحيفة الغد الاردنية

 


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply