الاتجاهات المستقبلية للإرهاب والتطرف في ظل العولمة

0

د. سعود الشرفات

“إنّ أيّ شخص لديه كمبيوتر هو عدوّ محتمل” (رولنز و ولسون).
نتوقع أن يبقى خطر التطرف الديني والإرهاب (ذي الأيديولوجيا الإسلاموية) التحدي الأول للدول والمجتمعات خلال العقد المقبل. وفي الوقت الذي سيبقى الشرق الأوسط هو الساحة الأكثر عرضة للإرهاب وانتشار ثقافة التطرف الديني، فإن العالم كله سيكون عرضة لهذا الخطر، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية وروسيا وجنوب شرق آسيا واليابان.
لذلك، فليس عبثاً أن يعتبر تحدي الإرهاب والتطرف الديني الإسلاموي التحدي الأول للإدارة الأميركية. فمثلاً، يرى خبراء في الإرهاب مثل  أنتوني كوردسمان (أستاذ كرسي بورك في الاستراتيجية ومكافحة الإرهاب والأمن القومي واستراتيجية وقدرات الدفاع)، في مقالة نشرت في “الغد” في 4 كانون الثاني (يناير) الحالي، أنه خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى في المنصب، ومباشرة بعد بداية رئاسته، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى التعامل مع 12 تحديا رئيسا على الأقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان على رأس هذه التحديات الاحتفاظ بعلاقات عسكرية جيدة، وفي مجال مكافحة الإرهاب، مع حلفائها العرب.
وبرهنت دراسة أكاديمية كمية قمت بها شخصياً للفترة 1986-2006، أن هناك علاقة طردية (إيجابية) وأثرا متبادلا بين العولمة والإرهاب؛ أي إن زيادة مظاهر العولمة تؤدي إلى الزيادة في ظاهرة الإرهاب، لكن ليس بالمقدار نفسه بالضرورة. وعزز التحليل الإحصائي باستخدام معامل الارتباط “بيرسون (ر)”، والدراسات المستقبلية من خلال استخدام “المصفوفة التأشيرية” هذه النتيجة الصاعقة وخطرة، إذ أثبتا وجود ارتباط قويّ بين المؤشّر العامّ للعولمة والمؤشر العام للإرهاب، وبلغ حجم هذه العلاقة بين المتغيرين 67 %، مما يعني أن لدينا علاقة وارتباطاً قويين جداً بين ظاهرتي العولمة والإرهاب.
وتعزز عمق هذا التحليل باستخدام “معامل الانحدار” الذي بين حجم العلاقة الهيكلية الوظيفة بين الظاهرتين، إذ أثبت أن هذه العلاقة طردية إيجابية وذات دلالة إحصائية، بحيث أنه لو زاد المؤشر العام للعولمة بمقدار وحدة واحدة فقط، فإن مؤشر الإرهاب العامّ سيزيد في المقابل بمقدار 47 % من الوحدة، وبما يعبر عن قوة هذه العلاقة.
ولعل من المثير للدهشة أن هناك علاقة طردية (إيجابية) وأثر متبادل بين الإرهاب كعامل مستقل والعولمة كعامل تابع. فقد تمّ التوصل إلى هذه النتيجة من خلال استخدام الأدوات نفسها التي استخدمت في التوصل إلى النتيجة الأولى، فتبين أن الإرهاب يساهم في زيادة العولمة، لكن بمقدار أقل من تأثير العولمة ومساهمتها في نشر الإرهاب.
كما بينت الدراسات والأبحاث التي قمت بها لاحقا أنّ مؤشرات العولمة كافة (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية) قد أثرت طردياً على ظاهرة الإرهاب، لكن مؤشر الترابط التكنولوجيّ كان له الدور الحاسم في تسارع الظاهرتين. إذ استطاعت الشبكات الإرهابية المتخطية للحدود الوطنية، والشبكات المحلية، استغلال مخرجات التكنولوجيا بفعالية أكثر من الدول، ونجحت في تنفيذ كثير من العمليات في العالم، والاستمرار في نشر الترويع والخوف من استخدام أسلحة الدمار الشامل، وبخاصة الأسلحة البيولوجية، واستخدام الإرهاب الإلكتروني، أو إرهاب الشبكات.
لقد أدّى التطور في ميكانزمات العولمة التكنولوجية إلى التسارع التكنولوجيّ من خلال التوسع في استخدام مخرجات التكنولوجيا الحديثة، ورخص كلفة هذه المخرجات، الأمر الذي أدّى في المحصلة إلى نوع من فقدان السيطرة على التكنولوجيا، فزوّدت الشبكات الإرهابية عبر العالم بأدوات إرهابية لا حصر لها على الإطلاق، وبحيث أصبحت هذه الشبكات الإرهابية قادرة على ابتزاز الدول الكبرى، وخلقت مأزقاً لها في كيفية مكافحة الإرهاب، وكيفية التعاطي مع ميكانزمات العولمة التكنولوجية المتسارعة. وهو ما بات يطرح أسئلة كبرى حول مستقبل النظام العالمي، وحول قيم راسخة مثل الأمن، والحرية والخصوصية، والثقافة والتثاقف (أو المثاقفة)، ونقل التكنولوجيا في ظل العولمة.
يمثّل هذا التطور أهمّ الاتجاهات المعاصرة والمستقبلية في دراسة الظاهرتين؛ لما يكتنفه من أهمية وخطورة على مستقبل العلاقات الدولية والعالمية؛ ذلك أنّ ثورة المعلومات غيّرت “من الأدوار التي كانت تلعبها  مختلف الأطراف الفاعلة (Actors) في العلاقات الدولية، الأمر الذي أدّى إلى الحصول على نتائج متضاربة. وأثبتت الأحداث حتى الآن أنها كانت لمصلحة الأطراف الفاعلة من غير الدول وبخاصة شبكات الإرهاب”.
وللتدليل على ذلك نسوق تحليل الباحث الأكاديميّ جوناثان أرنسون؛ المتخصّص في العلاقات الدولية والاتصالات، لأثر ثورة المعلومات التكنولوجية على الأطراف الفاعلة؛ إذ يقول: إنّ أهمّ العوامل المؤثرة على الدول (كطرف فاعل) وصناع القرار، هي: أ‌- أن الشبكات العالمية للمعلومات عملت على تفتيت احتكار المعلومات التي كان بيد الدولة وحكرا عليها. ب‌- أن الشبكات العالمية تمنح الشفافية للكل (Transparency to All)، فلا تستطيع دولة بمفردها أن تتخذ قرارات مهمة من دون معرفة رأي بقية الدول وبقية الأطراف أو التنسيق معها. ج- حجم المعلومات الاستخبارية المتوافرة عند الجهاز الاستخباريّ لدولة ما، وترجمة هذه المعلومات واستخدامها للحصول على القرار السياسيّ الأفضل.
تعمل ميكانزمات العولمة المختلفة على توسيع مفهوم الأمن، إذ تؤدي العولمة إلى توسيع دائرة المصالح المترابطة والمشتركة لمختلف الدول، ما يجعل عددا من الأهداف قابلة للتعرض للخطر من جانب شبكات الإرهاب. فاتساع قاعدة المصالح الأميركية والأوروبية في العالم بفعل العولمة، جعل منها مساحة هدف أكبر للشبكات الإرهابية، ما يسّر عمل هذه الأخيرة من ناحية، وساعد الدولة في الدفاع عن هذه المساحات من ناحية ثانية. ومن هنا تصبح المعادلة على النحو التالي: زيادة العولمة (تؤدي إلى) زيادة مساحة ميدان الصراع (تؤدي إلى) تسهيل العمليات الإرهابية وزيادتها.
وهناك علاقة طردية بين حماية الأمن والمعلومات والقدرات التكنولوجية وقوة الدولة. لكن المفارقة التي تخلقها سيرورة العولمة، هي أن الدولة لا تستطيع التحكم في حركة مؤشّرات التكنولوجيا، بخاصة أن الصناعات الدفاعية، ومصانع الأسلحة تدار بوساطة القطاع الخاص، والشركات المتخطية للحدود الوطنية التي تؤدي في النهاية إلى تقليل السيطرة الدولية على هذا الإنتاج. وقد مكنت مؤشرات العولمة التكنولوجية أطرافاً فاعلة من غير الدول، على رأسها الجماعات الإرهابية، من كسر الاحتكار الذي كانت تمارسه بعض الدول أو الشركات والمصانع على التكنولوجيا المتطورة والفتاكة.
ومنذ العقد الماضي، أكدت خلاصة مجموعة من التقارير البحثية الأكاديمية المقدمة حول “اتجاهات الإرهاب المعاصر” للكونغرس الأميركيّ، إلى أنّ أهمّ الاتجاهات للعام 2006 كان تحوّل الإرهاب إلى ظاهرة تحكمها الشبكات، بفضل نجاح الإرهابيين في استخدام حركة المعلومات والأموال والأفكار لمصلحتهم.
وتشير دراسات لمؤسسة “راند” الأميركية، وعدد آخر من الدراسات المستقلة، إلى زيادة ونمو خطر مؤشرات العولمة التكنولوجية، وبخاصة استخدام أسلحة الدمار الشامل، وزيادة في اتجاه العمليات الإرهابية ضد تأثيرات العولمة نفسها. لكنّ أخطر هذه الاتجاهات (من وجهة نظرنا) لأنه الأقرب، والأسهل للتنفيذ، يتمثل بما باتت تسميه الأبحاث الأمنية–الاستخبارية، والبحثية المتخصصة “بإرهاب الشبكات” (Cyber Terrorism). ويعرف رولنز وولسون هذا الإرهاب بطريقتين: الأولى، من حيث التأثير “عندما تؤدي مهاجمة الكمبيوترات إلى نتائج وتأثيرات تكون من التخريب بدرجة تكفي لإيجاد حالة من الخوف موازية للفعل التقليديّ للإرهاب، حتى لو قام به مجرمون”. والثانية، من حيث النية أو القصد، وذلك “عندما تنفذ هجمات الكمبيوتر غير القانونية أو ذات الأهداف السياسية بهدف تهديد وترويع الحكومة أو المواطنين، لأهداف سياسية، أو التسبب في أذى عظيم، أو أضرار اقتصادية جسيمة”.
وحسب ولسون، فإنه إذا استمرت هذه الاتجاهات للظاهرة المتمثلة بنمو ديناميكيات العولمة التكنولوجية، فإن “مهاجمة أجهزة الكمبيوتر ستصبح أسرع، وأكثر انتشاراً وأكثر تعقيداً”. ولعل الأكثر خطورة في الأمر -والذي يطرح أسئلة كثيرة وعميقة بحاجة إلى دراسات خاصة- يتعلق بمستقبل هذه الظاهرة، وكيف ستتعامل معها الدول في ظل تزايد نموّ التكنولوجيا، وخاصة نموّ استخدامات شبكة الإنترنت التي ظهرت منذ العام 1968، ووصفها أرنسون بأنها تنمو حسب متوالية هندسية. وفي هذا المجال، ذكر تقرير حديث لـ”مكتب المحاسبة الأميركيّ” أن المؤسسات والوكالات الحكومية الأميركية “ربما لن تكون قادرة في المستقبل على الردّ بفاعلية على تلك الهجمات” .
إنّ هذا النموّ المتسارع  لمؤشرات التكنولوجية يطرح أسئلة تقع في صميم سيرورة العولمة نفسها، وذلك حينما نعلم وندرك أنّ دراسة ظاهرة العولمة بوجود الإرهاب وعلاقاتها بالتكنولوجية، أخذت تميل نحو نوع من اللعبة الصفرّية، بشكل أو بآخر، وبخاصة أن صانع القرار في الدولة في تعامله مع ظاهرة الإرهاب يجد نفسه في كثير من الأحيان ليس في صراع رشيد مع الطرف الآخر، بل صراع مع منتجات بيئة العولمة المستجدة في ظاهرة الإرهاب. وهذا يعني أنّ الدول -حسب “نظرية اللعب”- تخسر كلاعب أمام الطرف الآخر وهو التنظيمات الإرهابية، إذا نجح هذا الطرف بدفع وإجبار الدول على: 1- تغيير سلوكها السياسي. 2- تغير بنية الدول ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستراتيجياتها العسكرية والأمنية، من خلال المراقبة والتصنّت على الهواتف والاتصالات، والتصنّت على استخدامات الإنترنت، ومنع توريد أجهزة الاتصالات والكمبيوترات والتكنولوجيا المتطورة إلى الخارج، والتشديد بموضوعات الملكية الفكرية، سواء على المدى القصير أو الطويل، وبما يعني التسبب في إبطاء مسيرة العولمة بشكل عام.

  • هذه المقالة مختصر مكثف لمحاضرتي التي قدمتها في مؤتمر مركز الدراسات المستفبلية التابع لجامعة فيلادلفيا 14-1-2017في جمعية السياسة الدولية عمان – الاردن .ونشر الجزء الأول منها في صحيفة الغد الأردنية ، الخميس 25-1-2017

About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply