تأثير العولمة على مستقبل الحوار مع الآخر

0

 

 

أ.د وليد عبد الحي([1])

 

مقدمة:

ثلاثة أبعاد تتفاعل في القضية التي يراد نقاشها في هذه الورقة البحثية، إنها العولمة، الآخر، الحوار،وتفترض أن البعد الأول له تأثير على البعدين الآخرين.

وتطرح أدبيات العولمة سؤالا مركزيا بتوجه مستقبلي وهو ، إذا تواصل الترابط والتشابك بين الكيانات السياسية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الدولي ، فما هو شكل النسق الدولي الذي سيتولد عن هذا الترابط؟،وبناء عليه ما هو شكل التفاعل بين مكونات ذلك النسق؟، وهل سيؤدي ذلك إلى “تعقيد” آليات الحوار أم “ييسرها”؟ .

تخبرنا نظريات العلاقات الدولية المعاصرة أن حدود أي نسق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي هي حدود تفاعل الوحدات مع بعضها،فإذ افترضنا تواصل إيقاع التفاعل بين وحدات المجتمع الدولي المعاصر من ناحية وتسارعها من ناحية ثانية ،فكيف سينتهي الأمر في شكله الثقافي والقيمي؟وما تداعيات ذلك على قضية الحوار الإنساني؟.

يستدعي ذلك تحديد أبعاد آليات العولمة، ثم تحديد انعكاس كل بعد من هذه الآليات على “التفاعل السلبي أو الإيجابي” بين المجتمعات، مع ضرورة النظر إلى ظاهرة العولمة على أنها “عملية” لا على أنها “منتهى”(process not destination).

من ناحية أخرى، ومع توفر مقاييس كمية(quantitative)  لمستويات التفاعل بين الكيانات الاجتماعية، فإن هناك أبعاد تزيد من التفاعل الإيجابي، بينما أبعاد أخرى تعقد هذا التفاعل وتأخذه للبعد السلبي، ففي الوقت الذي يزداد الترابط الاقتصادي بين المجتمعات والكيانات، فإن التفتت الاجتماعي يزداد ، وهو ما تؤكده زيادة عدد الدولة بفعل تفسخ دول قائمة(الاتحاد السوفييتي،يوغسلافيا،تشيكوسلوفاكيا،اثيوبيا، السودان…الخ) أو تزايد نشاط الأقليات وتنامي نزعات الانفصال لدى الثقافات الفرعية،وهو ما تؤكده أعداد الحروب الداخلية قياسا لأعداد الحروب الخارجية، وهو ما تعتبره نظرية “التغير والتكيف” قاعدة لتحليلها الذي سنأتي عليه لاحقا.

من ناحية أخرى، يجب أن لا يضيق مفهوم الحوار ويحصر في “النقاش الفكري والمثاقفة”، بل من الضروري دراسة البيئة الحاضنة لهذا الحوار وهي بيئة ذات قسمات سياسية واقتصادية ،إذ أن الاعتقاد بأن التفتت الاجتماعي وما ينجر عنه من انقطاع للحوار منفصل عن طبيعة التفاعلات في الميادين السياسية والاقتصادية هو اعتقاد واهم.

فالحوار مبني على مقابلة الأشياء بعضها ببعض ، وتبيان مواقع التجاذب والتنافر، وتحديد سبل الارتقاء بتلك الأشياء، فالسوق ينطوي على حوار بين السلع ذاتها، وبين المستهلك والسلعة، وبين المستهلك والمستهلك الآخر،وبين البائع والمستهلك، وبين المنتج والبائع،والمصارف والشركات والإدارات والثقافات والتقنيات تتحاور فيما بينها بصمت أو بدونه،وتتشكل القيم  والأفكار من تعقيدات هذه السلسلة المتداخلة من الحوارات،وفي كل بعد من هذه الأبعاد تغير متصل ينطوي على تبادل للأدوار(قد تكون بائعا أحيانا ومشتر أحيانا أخرى)،وهو ما يستدعي قدرا هائلا من المساومات وتبادل الأفكار التي تستقر في نهاية المطاف عند نقطة محددة تنتظر فعلا تحويليا (Turning Point) لتدور عجلة التغير من جديد…وهكذا.

إن اقتصار مفهوم الحوار على تبادل الأفكار هو تجزيء للمفهوم (Reductionism)،بينما الأمر يحتاج إلى منظور “كلاني”( Holism) حيث الكل أكبر من مجموع أجزائه،فالحوار أكبر من مجموع مفرداته.

ولما كان الواقع الدولي يشتمل على ظاهرتين مركزيتين –في الفترة المعاصرة على الأقل-(أشرت لهما سابقا)،وهما الترابط والتشابك الاقتصادي والمالي والتقني بين مكونات المجتمع الدولي من ناحية والتفتت السياسي والاجتماعي من ناحية أخرى، يصبح التساؤل هو:أي البعدين(التفتت الاجتماعي أو الترابط الاقتصادي والتقني) هو الذي سيتغلب على الآخر؟ وما تأثير ذلك على الحوار؟وكيف يتم تحديد ذلك،وما مدى استعداد المجتمعات العربية للتفاعل والاتساق مع هذه التصورات المستقبلية؟

مسألة أخرى تستحق التناول: من هو الآخر من الناحية الثقافية؟ إنه ذلك الذي لا يتطابق مع “السمة المركزية” للمجموعة الثقافية سواء أكانت تلك السمة مرتبطة بالعرق، القومية،الدين ،الطبقة،الآخر الآيديولوجي،المواطن والمهاجر، الذكر والأنثى…الخ، وهو تعريف قاصر في تقديري،لأن الآخر في رأيي هو كل من شاركني تفاعلا ما، أكان ذلك التفاعل سلبيا أو إيجابيا، أو كان التفاعل ثقافيا أو غير ثقافي، فالسائح والبائع والصحفي والمعلم والموظف يحاورون من خلال الحوار الصريح(Dialogue) أو الحوار الصامت الناتج عن ردة الفعل الساكنة(Monologue) .

ولعل هذا التصور لا يتناقض مع تصورات المنظور البنائي(constructivism) الذي حدده ويندت ويرى أن الهوية والمصلحة تتحددان من خلال التفاعل، أي أن حدود النسق الاجتماعي هي حدود التفاعل،كما أن ما بعد الحداثة لا ترى الفرد له هوية متسقة وواحدة ،بل له “هويات” متزاحمة وفي حالة تكيف دائم مع بعضها، فالهوية لا تحدد بيولوجيا بل تبنى تاريخيا واجتماعيا([1])، وهو ما يجعل تحديد الآخر أمرا أكثر عسرا مما يبدو للوهلة الأولى،إذ أن تداخل الانتماءات يجعل حدود “الغيرية”(otherness) متحركة تضيق وتتسع طبقا للموقف لا طبقا لمحدد تقليدي ساكن.

ومن الضروري التمييز بين الانتماء من خلال الجنسية(citizenship) والانتماء من خلال الهوية الاجتماعية(Identity)، إذ يبقى التباين والغيرية بالمعايير القانونية في الحالة الأولى بينما يبقى في الحالة الثانية من المنظور الاجتماعي ([2])،لكن بعض المفكرين مثل إيمانويل ليفيناس الفرنسي يرى أنه” إذا كان هم الفرد هو الوجود والاستمرار فإن ذلك يحمله حتما على مقاومة الآخر”، ويسخر ليفيناس من عبارة شكسبير” أن تكون أو لا تكون،هذه هي القضية” ،إذ يرى أن القضية ليست هذه(أي نفي الآخر بأي مستوى من مستويات النفي)، ويطالب باستبدال  الأنا التي يتحدث عنها علم الأونتولوجي  بالأخر الذي يتحدث عنه علم الأخلاق ، ويتنقد ليفيناس الفكر الغربي لأنه مؤسس على “أولوية حقوق في مواجهة الآخر(وهذا هو الحق)، بينما يجب أن تكون الأولوية للآخر في مواجهة الأنا(الخير)، واللقاء بالآخر يؤدي لتحريرنا من الخوف منه.([3])

 

الحوار والتواصل:

ترتسم ملامح إشكالية العلاقة بين العولمة والحوار والمثاقفة في الاعتقاد القائل بأن التواصل الاجتماعي وغيره من أشكال التواصل يقود لمثاقفة، لكن هذه المثاقفة كثيرا ما كانت تعاني من اختلال في موازين قوى المتثاقفين، وحينها يصبح الحوار في صالح المجموعة المهيمنة وعلى حساب المجموعة غير المهيمنة، وتتباين توصيفات المثاقفة والحوار استنادا لذلك،وتنتهي إلى أحد الأشكال التالية:([4])

1-المثاقفة:(acculturation):والتي تعني علاقة الأخذ والعطاء بين الثقافات المختلفة، والتي تكون أحيانا في مجتمعات مستقرة تُجاورُ بعضها بعضا داخل كيان سياسي ،أو قد تكون نتيجة إحتكاك مجموعات بشرية متحركة بجماعات أخرى، فتترك بعض آثارها في الأماكن التي تنتقل لها،كما تحمل معها آثارا من المجتمعات التي احتكت بها، وتبرز مثل هذه الأنماط في دور الطلاب والسياح واللاجئين والتجار…الخ.([5])

وتقدم لنا الدراسات الميدانية نماذج من عمليات المثاقفة وكيف تؤثر في مناهج التفكير من خلال التعرف على آليات التعبير اللغوي في الثقافات الأخرى ، مما ينتج عنه تقارب في التعبير وفي التفكير، وتشير إحدى هذه الدراسات-على سبيل المثال- إلى أنه عندما طلب من مجموعتين من الطلاب الأمريكيين والصينيين كتابة مقالة باللغة الإنجليزية، تشابه “منهج التحليل بينهم بنسبة عالية  بلغت حوالي 80%، بسبب تعلم الصينيين اللغة الإنجليزية، كما تحول الصينيون من المنهج الاستقرائي(inductive)(المعتادين عليه ) للمنهج الاستدلالي او الاستنتاجي(deductive) الذي نتج عن المثاقفة مع الآخر، كما أن  نماذج كتابة الشكاوي التجارية (اللغة المباشرة واللغة غير المباشرة في عرض الموضوع) كشف عن  تقارب شديد بين الطرفين بعد تعلم المجموعة الصينية اللغة الانجليزية([6]) ، بل لاحظت الدراسة أن النزعة الفردية تنامت في المجتمع الصيني بعد برنامج التحديثات الاربعة عام 1978 نظرا لتزايد الإقبال على اللغة الانجليزية.([7])

وفي نفس السياق، نجد أن عدد السواح  الذين انتقلوا من بلادهم لدول أخرى عام 2011 هو 983 مليون نسمة بزيادة بنسبة 4،6%  عن عددهم عام 2010.،وفي عام 2012 بلغت الزيادة قياسا لعام 2011 حوالي 3,8%،ومن المتوقع وصول العدد إلى 1،8 مليار نسمة عام 2020.([8])،وهو أمر لا بد أن يترك مع تواصله صورا ذهنية تحتفظ بها المجتمعات المتحركة عن المجتمعات التي تتصل بها، الأمر الذي يعزز نتائج دراسة اليونسكو القديمة التي اشرف عليها كانتريل والتي ترى أن تاريخ التفاعل بين مجتمعين هو الذي يحدد الصورة الذهنية التي يحتفظ بها كل منهما للآخر،وبالتالي يوفر فرصة للتفاعل والحوار أو يحول دونه ([9]).

وتستند نظرية المرايا المتقابلة (mirror images) في هذا المجال إلى فرضية مؤداها أن شعوب الدول المنخرطة في مواجهة عدائية طويلة تطور كل منها صورا مشوهة للطرف الآخر،وتتحول هذه الصور إلى واجب أخلاقي يشترط على الفرد في المجتمع الانصياع له،ويشجب المجتمع أي فرد يحاول إعادة النظر في الصورة التي يحملها شعبه عن الشعب الآخر،وهو ما يراكم الصور السلبية ويحول دون تطور الحوار أو حتى البدء به، وتتعزز هذه المسالة بالتحيز والتحامل الذي تكرسه النظم الثقافية ووسائل الإعلام والإرث الثقافي الذي يتم تفسيره بما يتناسب والصورة المشوهة.

2-الاستيعاب والتماثل(homogenization &assimilation) والتي تعني ذوبان الكيان الاجتماعي والثقافي لمجموعة ثقافية في مجموعة أخرى إلى الحد الذي تختفي معها الملامح المميزة لتلك المجموعة التي جرى استيعابها، وهو ما يعني تواري الثنائية التي يقتضيها الحوار،فمن غير الممكن الحديث عن حوار بين ثقافة الهنود الحمر والثقافة الأمريكية المعاصرة.

3-التكامل أو الاندماج(integration):المساهمة المشتركة من الأنساق الفرعية المختلفة لتشكيل بنية لا تنتمي في كليتها لمجموعة محددة، ورغم الجدل الواسع في الولايات المتحدة حول موضوع “بوتقة الصهر” أو (melting pot)،إلا أنه يمكن اعتباره نموذجا للتكامل بين الأنساق الاجتماعية المهاجرة عبر مراحل تاريخية .

4-الانفصال: (separation) إذ تنأى مجموعة ثقافية عن بقية المجموعات لتتفرد بذاتها، وهو ما يتضح في النزعة الإحيائية وتعزيز الذات(localization)،وتتم هذه العملية نتيجة إدراك عميق من قبل المجموعة لما يميزها عن الثقافات الأخرى في نطاق الكيان السياسي الواحد(كما جرى في الاتحاد السوفييتي أو يوغسلافيا أو تشيكسلوفاكيا أو اثيوبيا ..الخ)،وغالبا ما تختلط هذه النزعة بنوع من المقاومة لا سيما عند سيطرة مشاعر “الهيمنة” من ثقافة على أخرى، ويقدم اليهود نموذجا لهذا النمط من القدرة على مقاومة الذوبان وتعزيز النزعة الانفصالية عن المجتمع الكلي.

5-التهميش(marginalization):أي المشاركة الشكلية أو المحدودة من مجموعة ثقافية مع المجموعات الأخرى أو المجموعة الكبرى،وقد بينت دراسة ميدانية أوروبية واسعة أن الانتماء لأقلية دينية في مجتمع مختلف يمثل أهم عوامل التهميش ،كما أن الأفراد في هذه الأقلية أميل للحوار الداخلي في مختلف القضايا، أي أنهم لا يميلون للحوار مع الآخر(الحوار الخارجي) ،وكانت نسبة الفارق بين الحالتين كبيرة تصل أحيانا إلى عشرة اضعاف،وهو ما يعكس الرغبة في الانعزال،مما يعزز نزعة التهميش عند الأغلبية، كما تبين أن التمييز في تعامل الأغلبية مع الأقلية يقود إلى تنامي نزعة التهميش للأقلية،وكلما زادت مظاهر التهميش زاد النزوع للعنف من قبل الأقلية سواء العنف اللفظي أو العنف العضوي، وهو ما يعطل فرص الحوار.([10])

التعدد الثقافي والعولمة والحوار:

قد تكون الفكرة الماركسية حول العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية مدخلا يستحق المناقشة في قضية الحوار مع الآخر،إذ أن التشابه المتواصل بين البنى التحتية في مختلف مناطق العالم بفعل العولمة( التماثل في وسائل الانتاج وأنماط الإنتاج) يقود إلى بناء منظومات معرفية متقاربة قد تؤسس لقاعدة حوار إنساني مبني على تحولات جذرية واقعية لا على المنظور المعياري الذي أشرنا له فقط.

فنظرية التقارب(convergence) التي أرسى أسسها كلارك كير(Clark Kerr) في ستينات القرن الماضي([11])، ترى أن التحول المتواصل للمجتمعات نحو النمط الصناعي سيقود إلى تماثل متواصل في مؤسسات هذه المجتمعات،وأن المجتمعات الصناعية تمثل نمطا مفتوحا أمام الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، خلافا للمجتمعات القديمة التي يتم فيها الحراك على أسس التقاليد، وان المجتمعات الصناعية ستميل تدريجيا نحو المجتمعات الحضرية،وهو ما يجعل الأفراد والكيانات أكثر اعتمادا على بعضها، مما يضع أسس تقليص فرص التنازع بينها،وهذه النظرة ليست منبتة الصلة عن المنظور الماركسي الذي يرى ترابطا بين البنية التحتية والبنية الفوقية،ويرى أن الثانية هي انعكاس للأولى،مما يعني أن تماثل المجتمعات في بنياتها التحتية بفعل آليات العولمة سيقود إلى أنماط ثقافية متداخلة ومتقاربة في توجهاتها، الأمر الذي يضع قاعدة راسخة للحوار، ولعل انتقال المجتمعات الأوروبية من مرحلة الصراع الدامي إلى مرحلة الحوار والتعاون والتأسيس للوحدة لم يأت نتيجة النزعة الأخلاقية الإنسانية ،بل بفعل شبكة التماثلات والترابطات التي أفرزتها البنيات التحتية المتقاربة،وهو ما يساعدنا على التمييز بين تماثل أنماط الانتاج في الفترة الزراعية مع تباين في البنيات الثقافية، وبين المرحلة الصناعية التي أدت إلى تماثل في أنماط الإنتاج مع تنامي درجة الاعتماد المتبادل بين الأفراد والجماعات بفعل وسائل الاتصال والمواصلات التي سرعت وبوتيرة عالية من إيقاع الترابط والاعتماد المتبادل،وإلى درجة جعلت من المتغيرات الخارجية تنمو في تأثيرها على حساب المتغيرات الداخلية في تحديد نمط وشكل التغير والتكيف.

التغير والتكيف وصلتها بالعولمة والحوار:

يمكن تعريف التغير السياسي أو الاجتماعي أو غيره بأنه التحولات التي تتعرض لها البنى المختلفة، وتؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على توزيع السلطة والنفوذ في المجتمع (سواء أكان المجتمع المحلي أو الإقليمي أو الدولي)، ومع أن أدبيات التغير السياسي محدودة في المجتمع الغربي بشكل خاص والمجتمعات الأخرى بشكل عام  بسبب  الانحياز الأيديولوجي أو القصور المعرفي ([12])،إلا أن تسارع التغير بدأ يلقي بظلاله على التنظير للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بشكل متزايد أبرزته الدراسات الكمية لتحليل المضمون،ويكفي في هذا السياق الإشارة إلى أن مستخدمي الشبكة العنكبوتية(الإنترنت) عام 1996 كان حوالي 45 مليون فرد، ولكنه تزايد إلى حوالي 2 مليار عام 2012، كما ارتفع عدد المشتركين في الفيسبوك من 25 مليون فرد عام 2004 إلى حوالي 815 مليون عام 2011 ،أي بمعدل زيادة يصل إلى حوالي 113 مليون سنويا([13])، كما يشير تقرير لليونسكو  لعام 2012  إلى أنه عام  2010 كان هناك 3،6 مليون طالب أجنبي في العالم.([14])، ولو أخذنا أفلام السينما التي تعرض بلغات غير لغة البلد الذي تعرض فيها، سنجد على سبيل المثال أن نسبة الأفلام الأمريكية التي تعرض في المغرب تبلغ  33% من مجموع الأفلام المعروضة، بينما في جورجيا يعرض 50% من الأفلام بلغات أجنبية منها 24% أفلام أمريكية،وفي فرنسا يتم عرض 46% من الأفلام الأمريكية مقابل 64% في بريطانيا، أما اللغات التي تنتج بها الأفلام في كل دولة سنجد التنوع اللغوي واضحا، ففي الدول العربية وأفريقيا يتراوح عدد اللغات بين 2-3 لغات،أمريكا اللاتينية من 2-4، وفي أوروبا الغربية من 5-12، وفي أوروبا الشرقية من 4-12، وفي اسيا الوسطى من 1-7، بينما يتم إنتاج الأفلام في الصين بثلاث لغات وفي الهند بخمس لغات.([15]).

فإذا أخذنا نظرة أكثر اتساعا ،فإن التغير في نظرية عالم المستقبليات ري كورزويل(Ray Kurzweil) يتم بإيقاع أسي(Exponential)،وهو ما يعني أن البنيات القائمة يجب أن تتكيف مع هذا الإيقاع المتسارع، وهو أمر لا يمكن أن تنفرد به وحدة أو نسق منفصل،مما سيعزز نزعة التواصل،وهي نفس المعضلة التي عبر عنها توفلر(Alvin Toffler).([16]).

وتمثل نظرية التكيف السياسي لجيمس روزينيو(James Rosenau) المرجعية الأساسية لتحليل العلاقة بين النزعة الاستبدادية(وجوهرها رفض الحوار) وبين العجز عن التكيف السياسي،وتقوم نظريته على الأسس التالية:([17])

  • يربط الاعتماد المتبادل بين أجزاء من الكيانات السياسية على المستوى العالمي(Global Interdependence) يبعضها، مما يحيل حدود الكيان السياسي إلى حدود باهتة من ناحية ،وقد يقوض أواصر الترابط بين أجزاء الكيان ليجذبها باتجاه كيانات أخرى من ناحية أخرى، وهو ما يعني أن الكيان السياسي في العصر الحالي لم يعد كلا متكاملا نتيجة التبدل في روابط العلاقة بين أجزائه،وأصبحت سماته المحددة تبرز لا في حدوده التي تنتج عن تجميع أجزاء ذلك الكيان،بل في أنماط التفاعل الرئيسية التي تتكرر في نطاق حدوده المائعة،وهو الأمر الذي يزوده بالقدرة على الاستمرارية،ويساهم في تمييزه عن غيره من الكيانات .

ذلك يعني أن الكيان السياسي يعيش دوما حالتي الاستمرار والتغير، مما يجعله في حركة دائمة.

2-إن تفاعل نشاطات الكيان السياسي واستجابته للبيئة،تؤدي إلى خلخلة يومية في بناه الأساسية، ولعل الإبقاء على هذه التذبذبات في الأنساق الدائمة التي تشكل الكيان السياسي في نطاق حدود مقبولة هو جوهر التكيف السياسي.

3-إن البنى الأساسية تتمثل في أنماط التفاعل بين مكونات الكيان السياسي والتي تتسم بقيمة عليا إلى حد اعتبارها ضرورية لبقاء الكيان كوحدة محددة ومستقلة ذاتيا ومتميزة عن بيئتها،ولكنها مرتبطة بتلك البيئة بسبل منظمة إلى حد كبير أو قليل.

4- يترتب على المشهد السابق مواجهة الكيان السياسي نمطين من المطالب،أحدها تطرحه المكونات الداخلية للكيان(الأفراد،الأحزاب،هيئات المجتمع المدني،التنوعات الإثنية،الطبقات، النخب،مؤسسات الإنتاج، الهيئات الحكومية، هيئات القطاع الخاص..الخ)،والثانية تتمثل في مطالب البيئة الدولية(الدول الأخرى،المنظمات الدولية والإقليمية،المنظمات الدولية غير الحكومية،الرأي العام الدولي، السوق الدولية القيم والأعراف والقانون الدولية..الخ)،ويكفي في هذا الجانب الإشارة إلى أن الشركات متعددة الجنسيات يصل عددها عام 2012 إلى( 43060)شركة ([18]) ، منها المئة الأولى عالميا عام 2011، تحتفظ  17 شركة منها بأكثر من 90% من أصولها خارج مقرها الرئيسي.([19])،وهو ما يشير إلى التداخل بين اقتصاديات المجتمعات المختلفة.

5- أن جوهر سياسة التكيف السياسي تتمثل في مواجهة الدولة لهذه المطالب(الداخلية والخارجية)، والتي كثيرا ما كانت متضاربة، فتجد الدولة نفسها أمام احتمالات ثلاثة:

أ-تغليب المطالب الداخلية على حساب المطالب الخارجية، وهو ما يقود إلى نزاع مع البيئة الخارجية، وهو ما يندرج في إطار سياسة التكيف المقاوم،وهو الذي يتجسد في المستوى الثقافي بنوع من تأكيد التباين الثقافي الداخلي مع الخارجي(cultural heterogenization).

ب-تغليب المطالب الخارجية على حساب المطالب الداخلية، وهو الأمر الذي يقود لاضطراب داخلي نتيجة انتهاج سياسات تكيف إذعانية، حيث يتم تكييف البنية الثقافية الداخلية لحساب البنية الثقافية الخارجية،وهو ما يفرز(cultural homogenization).

ج-التوفيق بين المطالب الداخلية والخارجية، وهو الذي ينتهي إلى قدر من التوازن في سياسات التكيف، ويقود إلى ما يسمى(Glocalization) أو العومحلية.

ويعتمد انتهاج الدولة لإحدى السياسات السابقة على مستوى القوة للدولة مقاسا بمؤشرات ثلاثة هي:

1-مؤشرات القوة المادية:كالقوة الاقتصادية والسكانية والمساحة والتطور التكنولوجي…الخ

2-مؤشرات القوة المعنوية:وتتمثل في درجة الوعي، مستوى التعليم، درجة التماسك المجتمعي، الروح المعنوية، المستوى الأخلاقي، التطور الإداري، سيادة القانون، مستوى الحرية…الخ.

3-فن إدارة المتغيرات المادية والمعنوية، وهو المرتبط بدرجة تطور هياكل التخطيط وصنع القرار السياسي.

وتتمثل أبرز مظاهر التغير السياسي التي تركت آثارها على الدول العربية،في ذلك الفارق المتزايد بين إيقاع التغير وإيقاع التكيف، ويتحدد تسارع إيقاع التغير بالمدى الزمني المتناقص والفاصل بين تطور وأخر في إطار بنية أو وظيفة نسق ما من أنساق المجتمع،وهو ما يفترض إيقاعا متوازيا في مجال التكيف لكي يتمكن الكيان السياسي من الحفاظ على حد مقبول من الاستقرار.

ونظرا لتدفق شلالات من عوامل التغير التي تصيب الكيانات السياسية المختلفة، أضحت سياسات التكيف أمرا جوهريا،وهو أمر لا يمكن النجاح فيه إلا بمقدار مرونة النظام السياسي بمكوناته المختلفة،وقدرته على الاستجابة للتغيرات بشكل يحول دون انهيار مقوماته المركزية،وتعد قضية الحوار الداخلي بين مكونات المجتمع(بدلا من العنف) والحوار الخارجي مع المجتمعات الأخرى معادلا أخلاقيا للتنافر والصراع،لكن توافر هذه البيئة مرهون بدرجة الاعتماد المتبادل بين المجتمعات المتحاورة.

وفي ظل سياسات الاعتماد والتأثير المتبادل المتزايدة بين الكيانات السياسية،أصبحت صياغة استراتيجيات التكيف أمرا في غاية التعقيد،وتحتاج لهيئات علمية متنوعة الاختصاصات ،واتساع قاعدة المشاركين في رسم هذه الاستراتيجيات، وهو ما يعني تطور الحوار على المستوى الداخلي من ناحية ومستواه الخارجي من ناحية ثانية، وما تزايد مؤسسات المجتمع المدني في كل دول العالم إلا دليل على تنامي نزعات الحوار الداخلي،كما أن تنامي المنظمات غير الحكومية مؤشر آخر على تنامي نزعة الحوار بين المجتمعات، وهو ما يشير إلى أن البيئة الدولية تستعد لتحولات  مستقبلية جذرية في نطاق إدارة العلاقات الدولية من زاوية الحوار بين مكونات المجتمع الدولي.

وقد كانت استجابة الأمم المتحدة عام 1998 لدعوة الرئيس الإيراني محمد خاتمي لحوار الحضارات ،وتحديد عام 2001 ليكون عام الحوار مؤشرا على ذلك رغم أن نفس العام شهد الهجوم على البرجين في الولايات المتحدة، وهي صورة تعكس ثنائية التناقض بين “المنظور المعياري”  الذي يسعى لتكريس المعادل الاخلاقي للعنف  من ناحية ،والمنظور الواقعي في الخطاب السياسي الخاص بالحوار من ناحية ثانية، وهو ما يتجسد في نماذج تأرجح خطاب العلاقات الدولية المعاصر بينها مثل):[20])

-نهاية التاريخ :الذي يلغي التعددية الثقافية،ويرى أن الصراع التاريخي بين المنظومات القيمية انتهى لصالح نمط معين.

-صدام الحضارات:الذي لا يرى أفقا لعلاقات سوية بين الحضارات ،وأن النمط التاريخي للصراع الحضاري سيتواصل.

-حوار الحضارات:وهو الذي يتجسد في منظور معياري، يقر بالتعددية  لكنه يختلف مع النموذج السابق في استراتيجية إدارة العلاقة بين المتعددين مع فارق في العلاقة بين المتعددين.

نظرية العلاقات الدولية والحوار الدولي :

ثلاثة نظريات في العلاقات الدولية المعاصرة تستحق التأمل في مساهمتها في فكرة الحوار:

  • النظرية النسوية: وهي التي ترى أن مساهمة المرأة في التنظير للعلاقات الدولية سيؤدي إلى غلبة النزعة السلمية على أدبيات العلاقات الدولية المعاصرة، وتستند أبرز المنظرات في هذا المجال مثل كريستينا سيلفستر على نماذج دول شمال أوروبا التي يتحقق فيها اعلى نسبة مشاركة سياسية للمرأة مما جعل من هذه الدول تحتل المراتب الأولى في أغلب مؤشرات العولمة واحترام حقوق الإنسان ،وهو ما يعني أن الاعتراف بضرورة مشاركة المرأة سيخلق بيئة صالحة للحوار من خلال تعزيز النزعة السلمية.([21]).
  • النظرية البنائية التي طورها ويندت(Wendt) والتي ترى أن التفاعل يحدد هوية المجتمع من خلال اكتشاف ما يجمعه ويفرقه عن غيره،غير أن هذا التفاعل يؤدي تدريجيا من تحويل العلاقات الدولية من علاقة صفرية إلى علاقة غير صفرية،وهو ما يجعل ضوابط الحوار تتعزز.([22])
  • يعيد رونالد روبرتسون تنامي الحركة الدينية في مختلف مناطق العالم إلى أن العولمة أدت لتماثل واسع بين مختلف الأفراد والكيانات الإجتماعية، ولما كان الإنسان يأبى الذوبان تماما في تشابهاته مع الآخرين ،فإنه وبدافع سيكولوجي يسعى إلى البحث عن خصائص تميزه عن غيره،ويبدو من وجهة نظر روبرتسون أن المجتمعات المعاصرة حققت ذلك من خلال إحياء الإرث الديني كهوية مميزة،وهو ما أدى إلى حالة التصادم المعاصر بين هذه الأديان على مستويات مختلفة.([23])

غير أن معاينة دقيقة لمختلف الأدبيات في العلاقات الدولية يشير إلى نزعتين أولاهما نزعة معيارية أخلاقية،وهي تتفق وفكرة حوار الحضارات، وأخرى واقعية لا ترى العالم إلا أسير مركزية فكرة الصراع والتناقض بين المصالح مما يحول دون الحوار، كما تدعم التيار الثاني بآثار النزعات الفاشية وعمق ترسبات المركزية الأوروبية التي قادت لفكرة التراتبية بين الحضارات والتي تجعل من الحضارة الغربية مرجعية للحكم على الأشياء ،وهو  ما عطل الحوار،ولعل تراجع الآيديولوجيات ساهم في إحياء الإرث الثقافي لمختلف المجتمعات مما قاد لعودة التنافس الثقافي.

رغم ذلك كله ،فإن مسيرة العولمة متواصلة ،مما بدأ يفقد الظواهر محليتها المطلقة بفعل التفاعل،وهو ما أفرز ظاهرة التحلل من “المكانية”( deterritorialized).

سطوة التاريخ في ثقافتنا العربية وأثرها على الحوار مع الآخر:

لعل حضور التاريخ في الخطاب السياسي العربي المعاصر يبرز بشكل جلي في مفهوم”الثوابت” ،وهي تعني”القيم والعقائد والنظم المحددة التي تأخذ صورة مكتملة ونهائية وغير قابلة للتطور والتجديد ، وتعلو فوق الأزمان والبيئات المرتبطة بالإنسان حيث وجد وأنى وجد”، وينظر إلى هذه “الثوابت باعتبارها قيماً موضوعية ومستقلة عن كل اهتمام شخصي أو ثقافي” وما على الإنسان حيالها إلا أن يلتزم بها ويصوغ سلوكياته وفقاً لمقتضياتها”([24])،فإذا أخذنا بهذا التعريف وقمنا بعملية مسح للخطاب السياسي العربي بدا  لنا أن أغلب مفاهيم الظاهرة السياسية تقع في دائرة “الثوابت” سواء الوحدة أو القومية أو الوطن أو الدين أو الطبقة أو اللغة أو الحزب أو الشعب أو الأمة وبكيفية لا يبقى فيها للمتغير مكان،وهو ما نجده في أدبيات الأحزاب العربية كلها،ولو تباينت توظيفات هذه المفاهيم إلا أنها تقدم في هذه الخطابات على أنها “ثوابت”.

ويبدو لي أن طغيان أدبيات الثوابت هي استمرار لمنظور ميتافيزيقي يقوم على ” ثوابت مقدسة”، فإما أن تقبلها أو تقدم “ثوابت مقابلة لها وموازية”.

من ناحية أخرى،ثمة ظاهرة في بنية الثقافة العربية التي تثقل كاهل قدرتها على الحوار،وهي ظاهرةالإحساس بالدونية تجاه الفكر الغربي، فعند التمعن في الخطاب السياسي العربي نجد العلمانيين العرب أسرى الشكل والمضمون للخطاب السياسي الغربي،لكنهم يقرون-على استحياء أحيانا-بتباين البيئة الحاضنة للخطاب الغربي عن البيئة العربية،فلا هم قادرون على انتاج خطاب موائم للبيئة،ولا هم قادرون على التحلل من الانجذاب لبريق الخطاب الغربي،كما أن عقدة النقص لدى هذا الخطاب أنه لم يجد الحامل الاجتماعي له، فبقي محشورا في “ركن النخبة” من المجتمع، أما التراثيون في الخطاب السياسي فهم عصابيون في تعاملهم مع الفكر الغربي نتيجة إحساس عميق بقسوة الواقع المؤكد لغلبة الغرب وتفوقه عليهم،وأنه ينازعهم الأنصار في عقر دارهم.

وتتجلى أحاسيس الدونية في مفهوم متكرر في الخطاب السياسي العربي وهو مفهوم “الخصوصية”،والذي يعني التحوط من توظيف مفاهيم فكرية معينة لكونها “منتج خارجي” لا يتسق “وخصوصية مجتمعاتنا، كما أنها-هذه المفاهيم- قد تطوي في داخلها مقدمات الهيمنة .

ويقوم مفهوم الخصوصية على افتراض مباشر أو غير مباشر بأن ثقافة المجتمع تحمل خصائص لا يمسها التغيير(الثوابت التي اشرنا لها)،وهذه النظرة اللاتاريخية تشيد جدرانا عالية بين البنى الثقافية المختلفة فلا يؤثر بعضها ببعض بل لا تطل على شرفات بعضها،مما يعطل الحوار.

ويمكن اعتبار أنور عبدالملك الأكثر حذرا في تناول موضوع الخصوصية،حيث حدد دلالتها من خلال مكوناتها التالية):[25])

1-التركيب الداخلي لتصور الخصوصية: والذي وصفه بالمربع التكويني المكون من:

(أ‌)    تمكين الحياة الاجتماعية من التحقق والثبات؛ أي مستوى إنتاج حاجيات الحياة المادية (مستوى الاقتصاد).

(ب‌)  استمرارية حياة المجتمعات البشرية عبر الأجيال المتعاقبة reproduction ( عامل الحياة الجنسية البيولوجية كأساس لتناسل الأجيال البشرية).

(ج) النظام الاجتماعي والسياسي الذي يحقق حداً أدنى من الأمن والسلام داخل المجتمع وخارجه (السلطة والدولة).

(د) علاقة الإنسان في مجتمعه مع البعد الزمني (الأديان والفلسفات)

2- حركة المربع التكويني في الإطار المكاني والزماني

3-التفاعل الجدلي بين عوامل الاستمرارية وعوامل التغير،وهو التفاعل بين عناصر المربع التكويني.

إن التنوع الثقافي لا ينفي التأثير المتبادل بين هذه التنوعات،فالثقافة معطى حيوي ينمو ويتطور ،يأخذ ويعطي،والتجربة تدل على تساقط بعض الجدران في مختلف الثقافات وتشييد جدران بديلة.

ويبدو لي أن خطاب ” الخصوصية ” ليس بريئا على الدوام،فبعض منتجيه من الحكومات والنخبة الثقافية والسياسية  خاصة الفكر القومي والإسلامي يشهرونه لمواراة سوءات الواقع الذي يحكمونه أو حكموه،أو لعلها غريزة تعزيز الذات في مواجهة الآخر الثقافي من منطلق الإحساس بالنقص.

إن تهيب بعض الخطاب السياسي العربي من وضع خصوصياته موضع النقد،يجعله مفارقا لجهود إنسانية تحاول صياغة منظومة قيمية مشتركة،فكم ساهم الخطاب السياسي العربي في الحوار الخاص بصياغة العهود الدولية لحقوق الإنسان على سبيل المثال؟

وتتحول “عقدة النقص” أحيانا إلى نزعة عدوانية في الخطاب السياسي تزداد حدتها بعلاقة طردية مع عمق العقدة،وتتضح ملامحها في توظيف مفهوم الاستغراب(Occidentalism) لمواجهة تعبير إدوارد سعيد الاستشراق(Orientalism)([26])، وتتجلى مؤشرات ذلك في الخطاب من خلال التشبث بنصوص مثل:

-إن جذور الحضارة الغربية هي جذور عربية إسلامية.

-عقدة الإعجاز العلمي (ونحن هنا إزاء دفاع يحركه العقل الباطن بهدف تعزيز الشعور بالذات في مواجهة المتفوق علينا،وهو ما يحول دون الانفتاح على الآخر، وهو فعل سياسي بامتياز).

-الاتهام الأخلاقي للمجتمع الغربي،ومركز هذا الاتهام هي العلاقة بين الرجل والمرأة،وهي تهمة تخفي حرمانا حادا، لكنها تتحول لسلوك سياسي عطل مشاركة المرأة عن المشاركة السياسية والاجتماعية حتى في قيادة السيارة في بعض الدول..

-التأكيد على عدوانية الحضارة الغربية من خلال التركيز على السلوك السياسي وتجاوز إبداعها التقني والفكري،وهو أمر يمكن فهمه بالعودة لدراسة اليونسكو عن الصور الذهنية التي تحملها المجتمعات لبعضها البعض، والتي تؤكد على أن هذه الصور ليست صحيحة بالضرورة بل هي انعكاس لطبيعة العلاقة التاريخية بين طرفي العلاقة([27])

مستقبل الحوار بين الحضارات:

لا تحفل الدراسة المستقبلية بالحدث إلا من خلال إدماجه مع الأحداث الأخرى لتشكيل اتجاها فرعيا في الظاهرة،ثم ربط الاتجاهات الفرعية في هذا المجال بغيرها لتشكيل الاتجاه الأعظم (Mega-Trend)،واستنادا لذلك،يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات للعلاقة بين الكتل الحضارية في ظل تنامي ظاهرة العولمة:([28])

أولا: التحلل التدريجي للحضارات قاطبة وذوبانها في مجتمع هائل.

تتضح تفاصيل هذا السيناريو في فكر الفيلسوف الروسي زينوفيف(Zinoviev)، والذي رأى أن الحضارات ليست إلا ظاهرة تاريخية تبرز وتعيش وتتطور وتتغير ثم تموت،وكل مرحلة من هذه المراحل تتم من خلال ظروف معينة،ولم يكن ظهور الحضارات في السابق ضرورة مؤكدة، إذ لا يمكن اعتبار مجرد تجمع جماعات بشرية أمرا منتجا للحضارة أو محافظا عليها ،أما الحضارات المتبقية ومنها الحضارة الغربية فهي محكومة بالفناء،وستحل محل كل هذه الحضارات ظاهرة جديدة، وأكثر مواءمة للظروف الدولية المعاصرة، فمنذ منتصف القرن العشرين بدأت الحضارة الغربية تتماهى في تنظيم اجتماعي من مستوى أعلى، وهي المجتمعات العملاقة(global super society)،وهذا التحلل للحضارات له جذوره في النموذج النيوليبرالي للعولمة والذي يفرض ذاته من خلال تسييد قيمه وأنماط انتاجه ونظمه التقنية والاقتصادية  المختلفة .

لكن التنوع الحضاري الذي افرزته القرون السابقة، وامتداد جذور بعض الحضارات في أعماق التاريخ يحول دون ذوبانها في كيانات أكبر،كما أن هذا التنوع ساهم في إضفاء حيوية على حركة التطور الإنساني،وبغياب هذا التنوع تضع الحضارات نفسها في حالة فقدان الحيوية الأمر الذي قد يؤدي لموتها.

نتيجة لهذه القوى المتعاكسة، سيبقى التنوع الحضاري ،لكن العلاقة بين هذه الحضارات ستتجه تدريجيا بفعل أنماط الترابط والتشابك بينها نحو التشاركية والحوار لمواجهة المشكلات التي تواجهها كلها.

وترى نظرية “زينوفيف” أن قوى الدفع لتذويب الحضارات تتمثل في الآتي:

1-مناهج التعليم ووسائل الترفيه وأنماط الحياة الغربية: فمعظم مناهج ومضمون المساقات العلمية في الجامعات المختلفة في كل العالم تكاد أن تكون متقاربة بنسبة كبيرة،بما في ذلك العلوم الإنسانية رغم أن هذه أقل قياسا للعلوم الطبيعية(وهو ما يجسده الاعتراف المتبادل بين الجامعات بشهادات بعضها)، ويتكرر النموذج في قطاعات أخرى،ويكفي النظر إلى أفلام الكرتون الخاصة بالأطفال ،فقد أصبح “توم آند جيري” معروفا لكل أطفال العالم بعد أن حل التلفزيون محل الحكاية الشعبية التي تبني أنماط تفكير وخيال مختلف،بينما يوحد “توم آند جيري” مشاعر هؤلاء الأطفال في مختلف المجتمعات…الخ.

2-عدم قدرة الحضارات المحلية على الاستقلال الاقتصادي نتيجة سيطرة الشركات متعددة الجنسية على أنماط الإنتاج وتدفق السلع والأموال،وهو ما ترتب عليه اتساع  الفجوة الاقتصادية بين الكتل الحضارية، لكن ذلك سيزيد من الاعتماد المتبادل بين الأطراف المتفاعلة.

3-تنسيق السياسات البيئية واستعمال الموارد الطبيعية،والذي يعكس القلق الإنساني لاسيما أن الطبيعية لا تحتوي أوكسجينا مسلما وآخر مسيحيا ، ويبدو أن الدعوة  للحوار التي أطلقها معهد ” بيتريم سوروكين ونيكولاي كوندرتيف” الروسي  تستهدف وضع أسس لحوار على أساس “المشاركة الحضارية” من خلال”الاستثمار المشترك” للموارد المختلفة في العالم.

ثانيا: صدام لحضارات الذي تنبأ به صموئيل هانتينغتون .

يرى هنتينغتون أن العوامل الثقافية لا سيما الدين واللغة تأبى الحل الوسط الذي ينتجه الحوار،بينما الخلافات الأخرى ذات الطابع المادي قابلة للتسوية،وعليه فإن تلك العوامل الثقافية ستبقي على احتمالات الصدام لاسيما إذا تعززت باتساع الفجوة الحضارية والاقتصادية بين الكتل الحضارية. لكن الخوف من أن صدام هذه الحضارات سيقود إلى كارثة للجميع يشكل كابحا أمام احتمالات هذا السيناريو. وعلى الرغم من بروز صدامات حضارية محلية، في الشرق الأوسط والبلقان وغيرها ، لكن المجتمع الدولي ما زال ناجحا في تطويق امتداد هذه الصدام ومنع تحوله لصدامات على المستوى العالمي، نتيجة للفارق الكبير في توزيع القوى بين الكتل الحضارية،لكن حدوث تحول في هذا التوزيع قد يجعل هذا السيناريو أكثر قابلية للتحقق.

ثالثا: المشاركة والحوار بين الحضارات:

ليست ظاهرة التعاون والحوار بين الحضارات ظاهرة جديدة، فقد عرفتها الخبرة الإنسانية في مراحل مختلفة، لكن جولة الحوار والتشارك  بين الحضارات مستقبلا سيأخذ أشكالا جديدة أو تعديلات على الأشكال التاريخية مثل:

أ-إن الحالة الراهنة تشير إلى أن بديل المشاركة والحوار هو الصدام الذي قد يأتي على البشرية كلها بالدمار،وهي حالة لم تعرفها العلاقات بين الحضارات في أية مرحلة تاريخية سابقة،الأمر الذي “يجبر” الحضارات على البحث عن معادل أخلاقي لإدارة تفاعلاتها بالقوة.

ب- إن الحضارات المحلية تعيش هاجس احتمال الذوبان في مجتمع معولم قائم على أسس النموذج الغربي،وهو ما يشحذ همم الحضارات المحلية إلى محاولة الحفاظ على ذاتها وتعزيز هذه الذات، وهو ما يخلق بعض التوازن الذي يشترطه الحوار البناء.

ج-لم تعرف تفاعلات الحضارات في المراحل التاريخية السابقة هذا القدر من القضايا المشتركة التي تضع قاعدة للحوار لمعالجة مشتركة لهذه القضايا مثل المشكلات البيئية،التهديد النووي، درجة الاعتماد المتبادل..الخ، إلى جانب توفر أدوات التواصل بين المجتمعات بكثافة لم تعرفها البشرية في المراحل السابقة بفعل التطور التقني الهائل والمتسارع، وبفعل التدفق المالي والسلعي والأفراد والافكار..الخ بين المجتمعات.

الخلاصة:

تشكل النظرة المعيارية دافعا إنسانيا للحوار بين الثقافات المختلفة، لكن هذا التوجه يصطدم بتوجه واقعي كرسه تحجر أنماط التفاعل المركزية في الشكل الصراعي أو التنافسي، غير أن تنامي آليات الربط بين الكيانات المختلفة من خلال العولمة، وتنامي ظاهرة التكتلات الإقليمية،بدأ يخلق بيئة أقل عنادا أمام تطور الحوار الإنساني،ولعل الفكرة التي طرحها عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جدنز حول المشاعر الإنسانية التي وحدتها مظاهر كثيرة(لحظة النزول على القمر، التوقيت الموحد غرينتش، الارتباط العاطفي بفرق رياضية أجنبية أو آيديولوجية خارجية أو ممثل سينمائي…الخ) يعزز هذا التوجه،على أن ندرك أن الأمر لن يأخذ طابعا آليا .

 

 

 

هوامش الدراسة

[1] – ورقة الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي استاذ العلاقات الدولية في جامعة اليرموك –الأردن ،وعضو الهيئة الاستشارية في مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب في عمان ، التي قدمها في اليوم الثاني (8 آب 2017م)من ورشة العمل  (مقاربات استشرافية في كيفية مكافحة التطرف والارهاب )التي أقامها مركز شُرُفات بدعم من وزارة الثقافة الأردنية ضمن فعاليات المفرق مدينة الثقافة في الأردن لعام 2017وعقدت في مسرح الموسيقى في جامعة آل البيت –المفرق -الاردن.وستنشر الورقة لاحقا مع بقية الوراق التي قدمت في الورشة في كتاب من اصدرارات مركز شُرفات وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية.

[1] – Beck, U.. What is Globalization?. Cornwall: MPG Books, Bodmin

Ltd, 2000.p.47

[2] – Isis, E. F., Wood, P.K.. Citizenship and Identity. London: Sage,1999 . pp.16,20,47.

[3] – Emmanuel Levinas, Ethics and Infinity: Conversations with Philippe Nemo, trans. R.A. Cohen. Pittsburgh: Duquesne University Press, 1985

[4] -J.W.Berry-Globalization and Acculturation , International Journal of Intercultural Relations,vol.32,issue.4,2008.pp.228-336.

[5] – Funlayo Vesajoki-The Effects of Globalization on Culture . A Study of the Experiences of Globalization among Finnish Travelers – Cultural Anthropology Masters Thesis, Department of Ethnology

University of Jyväskylä, December 16th 2002.

 [6] – Yingqin Lin- Exploring the Impacts of Cultural Globalization on Cultural Awareness/Values and English Writing in Chinese Context, Intercultural Communication Studies XXI: 2 (2012).pp.101-103

[7] -Yingqin Lin-Op.cit.p.95-96.

[8]http://www.reuters.com/article/2012/12/12/us-un-tourists-idUSBRE8BB14Y20121212

[9] – William Buchanan and Hadley Cantril-How Nations See Each Other,Urbana,The University of Illinios Press,1953.p.57

[10] -EU Agency for Fundamental Rights-Exoerience of Discrimination,Social Marginalisation and Violence,FRA,Austria.27.Oct.2010.passim.

[11] -Kerr, Clark, John T. Dunlap, Frederick H. Harbison,and Charles A. Myers-  Industrialism and Industrial Man. Cambridge, Mass.: Harvard University Press. 1960 .

[12] -Robert Gilpin-War and Change in World Politics,(University of Cambridge,1981).p.5 and Chapter 1:The Nature of International Political Change.pp.9-50

[13]http://www.globale-trends.de/fileadmin/Redaktion/GlobaleTrends_2013/gt_2013_English.pdf

[14]http://www.wes.org/ewenr/13mar/feature.htm

[15] – حول هذه المعطيات أنظر التفاصيل في المراجع التالية:

– UNESCO Institute for Statistics -“Linguistic Diversity of Feature Films”. UIS Fact Sheet No. 17. Montreal: UIS, 2012.

– UNESCO Institute for Statistics -Measuring the Diversity of Cultural Expressions: Applying the Stirling Model of Diversity in Culture. UIS Technical Paper No. 6. Montreal: UIS, 2011.

http://www.uis.unesco.org/culture/Documents/fs24-feature-film-diversity-en.pdf

[16]http://en.wikipedia.org/wiki/Ray_Kurzweil

[17] -Rosenau, J- The Study of Political Adaptation, (London, Frances Pinter.1980).pp.58-80

[18]http://publicintelligence.net/global-network-of-corporate-control/

[19]http://www.economist.com/blogs/graphicdetail/2012/07/focus-1

[20]– Fabio Petito- Dialogue of Civilization as An Aternative Model for World Order.

http://www.ispionline.it/it/documents/Religioni/Petito.pdf

[21] -J.J.Pettman- Worlding Women:A Feminist International Politics,St.Leonards:Allen&Unwin,1996.

[22] -Wendt,A.-Collective Identity Formation and the International State, American  Political Science Review,(88).2

[23] -Roland Robertson-Globalization:Social Theory  and Global Culture,SAGE Publications LTD,London,.1992.

[24] -محمد أمزيان-  منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، هيرندن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1980، ص354-355

[25] – أنور عبد الملك، من أجل استراتيجية حضارية،  مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2005.ص.123-183.

[26] – Hussain Al-Sharoufi-Critical discourse analysis of political editorials in some Arabic Newspapers.

http://www.paaljapan.org/resources/proceedings/PAAL11/pdfs/02.pdf

[27]William BuchananHadley Cantril-Op.cit .

[28] – B. N. Kuzyk, Yu. V. Yakovets-Civilization Theory ,History, Dialogue and the Future, vol.2,Moscow Institute for Economic Strategies,2006,pp.96-102


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply