أين تكمن مشكلة دراسة الإرهاب المعاصر؟

0

ليس من السهل على الباحثين استعراض الأدبيات التي تدرس حقل الإرهاب؛ لأنه يتميز بتداخل كثير من حقول المعرفة مثل: علم الاجتماع والدين وعلم النفس والعلوم السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا، الأمر الذي عقّد من دراسته، ثم زاد من هذا التعقيد قلة الدراسات المتخصصة بالظاهرة.

ولم تحظ دراسة الإرهاب، على أنّه حقل مستقل، باهتمام كبير في العالم إلا بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي أدت إلى ثورة في حركة البحث والكتابة والتأليف والترجمة والمراجعات حول هذه الظاهرة، حتى أنّ عدد الكتب التي صدرت عقب الهجمات بعقدٍ من الزمن يُقدر بأكثر من 1742 كتاباً في الغرب.

أدت هجمات 11 أيلول إلى ثورة في حركة البحث والكتابة والتأليف والترجمة والمراجعات حول ظاهرة الإرهاب

لكن، وللأسف الشديد، معظم ما ينشر من كتب ودراسات اليوم يتمحور حول “الدولة” كطرفٍ فاعل، ويتناول في الأساس، بشكل مباشر أو غير مباشر، “مكافحة الإرهاب” وليس “الإرهاب” كظاهرة إنسانية كلّانية.

لقد أصبح الإرهاب ظاهرة عولمية، تتخطى الحدود الجغرافية والقومية والثقافات ولا تختص بمنطقة جغرافية أو قومية أو جنسية أو ديانة محددة، وينشط اليوم مستفيداً من فضاءات العولمة. ولأنه نوع من العنف السياسي يهدف لتحقيق أغراض وأهداف متعددة ومختلفة؛ فقد أصبح أداة من أدوات تنفيذ السياسة الداخلية والخارجية للدول والجماعات مستفيداً من منظومة واسعة من الأسباب والمحركات المختلفة والمتعددة، لكنه يزدهر في مناطق الأزمات والصراعات السياسية والحروب، وتقوم به “أطراف فاعلة من غير الدول” لتميزه عن إرهاب الدولة؛ إذ تشير إحصائيات “معهد الاقتصاد والسلام” في سيدني-أستراليا لعام 2017 الى أنّ الدول التي تشهد صراعات عسكرية عنيفة تعرضت لخطر الإرهاب أكثر من غيرها، وأنّ الدول العربية التي تأثرت أكثر بموجات ما يسمى بـ”الربيع العربي” بعد 2011 تعرضت لعمليات إرهابية أكثر. وأنّ 99% من مجموع قتلى العمليات الإرهابية، و96% من مجموع العمليات الإرهابية عالمياً، حدثت في الدول التي تعاني من صراعات عسكرية، والدول التي تعاني من ارتفاع معدلات الإرهاب السياسي.


إنّ مشكلة دراسة الإرهاب المعاصر تكمن في حقيقة أنّ هناك فوضى مفاهيمية عميقة تتجلى في عملية الخلط بين الدراسة العلمّية للإرهاب؛ كحقلٍ مستقل لظاهرة اجتماعية إنسانية من جهة، وبين مكافحة الإرهاب وأساليبه المختلفة التي تركز على الجوانب الأمنية والعسكرية من جهة أخرى. وجُلّ ما يتحدث عنه اليوم في الدراسات والأبحاث وتروّجه وسائل الإعلام يندرج في إطار “مكافحة الإرهاب” وأساليبه المختلفة.

إنّ أهمية تعريف الظاهرة ليس بهدف معرفة الفعل الإرهابيّ وتحديده فقط بل لمعرفة كيفية التعامل مع تبعات الظاهرة

وإلى جانب صعوبة البحث، وفي ظل وجود الكثير من الأدبيات السطحية المتحيزة في دراسة الظاهرة بشكل عام، بقيت مشكلة تعريف المفهوم عقبة في وجه المهتمين بالظاهرة؛ إذ لا يوجد حتى الآن تعريف واحد للإرهاب اكتسب القبول العالميّ، سواء لدى الأطراف الدولية، أو المؤسسات، أو الأفراد. لذلك استمر الجدل والخلاف لأسباب متعددة منها: دينية وسياسية، وأيديولوجية، وكذلك تاريخية مفاهيمية، من حيث إنّ استخدام المفهوم تغير وتبدل عبر الزمن، فإرهاب “فترة الرعب” 1790 إبان الثورة الفرنسية، يختلف، شكلاً ومضموناً، عن اتجاهات الإرهاب المعاصر، وينظر إلى الإرهاب عادة من زاوية الكره والرفض له، بمعنى، غياب النظرة العلمّية في الدراسة، والإغراق بعيداً باتجاه الجانب الأخلاقي للظاهرة.

إنّ أهمية تعريف الظاهرة ليس بهدف معرفة الفعل الإرهابيّ وتحديده فقط، بل لمعرفة كيفية التعامل مع تبعات الظاهرة وكما يقول “توني ديفيز” فإنّ المعنى أصلاً هو “شكل من أشكال الهيمنة، غير متأصل في الكلمة (الإرهاب) بل منزوع منها في صراع لا ينتهي بين التعريفات”. وهذا ما يستدعي الإشارة وإعادة التذكير بأنّ التعريفات الغربية، والأمريكية، تنظر إلى الإرهاب وتعرّفه كأسلوب من أساليب الحرب التقليدية، أو حرب العصابات، أو المتمردين.

لا يوجد حتى الآن تعريف واحد للإرهاب اكتسب القبول العالمي سواء لدى الأطراف الدولية أو المؤسسات أو الأفراد

لكن معظم الباحثين في أدبيات الإرهاب العالمي يؤكدون بأنّ الإرهاب هو شكل من أشكال العنف السياسي، ويعود ذلك إلى الجذور التاريخية للمفهوم، والتي تعود إلى فترة الرعب الذي رافق الثورة الفرنسية (1793-1795) كما أنه أسلوب من أساليب الصراع، ويمكن أن يشكل إستراتيجية خاصة للقائمين به.

وفي نفس الوقت، يشير الباحثون البارزون مثل؛ المؤرخ والمنظر الأمريكي المعروف في أدبيات الإرهاب والعنف السياسي، ولتر زئيف لاكوير، إلى أنه مهما كان تعريف الباحثين للمفهوم فإنّه سيُرفض من بعضهم لأسباب أيدولوجية، وبأنّ الصفة الرئيسة للإرهاب هي اشتماله على العنف، والتهديد باستخدام هذا العنف.

مناظرات متضاربة

ما تزال النظرية الواقعية هي المسيطرة في حقل دراسة الإرهاب حالياً؛ وأقصد كحقل دراسي بحثي مدرسي ومعرفي، وأيضاً كفعل عملياتي أداتي يتجلى في تكتيكات وأساليب مكافحة الإرهاب الخشنة، والتي تستند في الأساس إلى إيمان النظرية الواقعية العميق بكل فروعها بأنّ الدولة هي وحدة التحليل الرئيسة في السياسة الدولية رغم التغيرات العميقة التي أحدثتها سيرورة العولمة؛ من تغير وحفر في بنية وسلوك الدول اليوم، وفي تركيز النظرية على دراسة إرهاب “الأطراف الفاعلة من غير الدول” كالجماعات والمنظمات، في مقابل إهمال دراسة “إرهاب الدولة”؛ أي الإرهاب الذي تمارسه الدول سواء ضد غيرها من الدول، أو ضد الجماعات والمنظمات أو حتى الأفراد. وتركيز الباحثين والأكاديميين المرتبطين بها على الدراسات الانطباعية وقلة الدراسات المعتمدة على المصادر الأولية والدراسات الكمية، ثم الارتباط العضوي لهذه الدراسات والأبحاث بالدولة لأنها القادرة على تمويل الدراسات والأبحاث.

في منافسة “النظرية الواقعية” نشطت “النظرية النقدية” والدراسات النقدية في دراسة الإرهاب (Critical terrorism studies (CTS إثر هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وإعلان الحرب على الإرهاب مستندة إلى تراث ماركسي تقليدي من مدرسة “فرانكفورت” والدراسات الأمنية النقدية في جامعة “أبيريستوث ويلز” في محاولة لتشييد مقاربة مختلفة لدراسة الإرهاب كبناءٍ اجتماعي وتعرية مفهوم الإرهاب كشعارٍ يطبق في ممارسات عنيفة محددة من خلال مستويات مختلفة من العمليات السياسية والقانونية والأكاديمية، والتأكيد في المقابل أنّ المعاني يتم تطويرها بالتنسيق مع الآخرين وليس بشكل منفصل داخل كل فرد.
من هنا تركز هذه المدرسة على ضرورة طرح أسئلة “كيف” و”لماذا” تحدث العمليات الإرهابية؟ وهل حقاً أنّ الإرهابيين يكرهون الغرب لحريته؟ أم أنّ هناك أسباباً ودوافع سياسية أخرى؟ والتأكيد على أنّ الإرهاب “أنطولوجيا” حقيقة اجتماعية وليس رغبة إنسانيه متوحشة. ومن أشهر منظريها اليوم ريتشارد جاكسون، كين بوث، وريتشارد ووين جونز.

شخصياً؛ لا أظن بأنّ النظرية النقدية قادرة على منافسة الواقعية، على الأقل حتى الآن، لأسباب كثيرة يطول شرحها. لكن المفيد فيه أنّها وسّعت من مداركنا وأدواتنا التحليلية أبستمولوجياً وأنطولوجياً في فهم الظاهرة خاصة دراسة الإرهاب بشكلٍ معرفي، علمي وكمي، كحقل دراسي مستقل، وليس فقط كإجراءات وعملياتية تكتيكية جامدة كما تتجلى في “مكافحة الإرهاب” اليوم.

في النهاية ؛ ينبغي التأكيد على أنّه ليس هناك مجتمع معاصر محصن ضد الإرهاب، لكن مكافحته لا تتم فقط عن طريق الأساليب العسكرية والإجراءات الأمنية والمقاربات الخشنة؛ بل عن طريق الدمج المتزن والذكي بين المقاربات الخشنة والناعمة معاً، والتعاون والتشارك بين كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع، وتعميق ثقافة الحوار والتواصل والتفاهم، وتقبل الآخر، والاهتمام بقطاعات النساء والشباب في المدارس والجامعات الذين يشكلون اليوم العمود الفقري لكافة الجماعات الإرهابية في العالم. وتوجيه الحكومات والدول ومؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأسها مراكز البحث والدراسات، نحو الاهتمام بالدراسات النظرية والأكاديمية التي تبحث الظاهرة من كافة جوانبها المعرفية الكمّية والكيفية. وعدم الاقتصار على دراسة “مكافحة الإرهاب” وأساليبه فقط.


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply