معركتنا مع “الذئاب المنفردة” و”الحملان الذئاب

0

بشار جرار يكتب من واشنطن- خاص  لمركز شُرُفات

شرعت بكتابة هذه السطور بعد أن فرغت من متابعة المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير العدل الأميركي وليام بار ومدير مكتب التحقيقيات الفدرالي (إف بي آي) كريستوفر راي حول التحقيقات الجارية مع الذئب المنفرد الذي قام بغدر وطنه (المملكة العربية السعودية) ومضيفه حليف بلاده (الولايات المتحدة) بإطلاق النار على رفاق التدريب والسلاح في قاعدة بنساكولا في ولاية فلوريدا في ديسمبر الماضي. سبب انعقاد المؤتمر كان كسب معركة تقنية دامت ثمانية أشهر بعد تعذر كسب معركة قضائية مع شركة آبل التي رفضت فك شيفرة الهاتف الذكي الخاص بالمتهم محمد الشمراني حفاظا على خصوصية المستهلك!

هذه السذاجة أو التنطع الذي عبر عنه الرئيس التنفيذي لآبل الذي لم يستجب حتى لنداء الرئيس الأميركي بالتعاون، لعله يفسر سنوات التيه التي ما زلنا نعيشها كمجتمعات مدنية وأجهزة استخبارات حكومية (مدنية وعسكرية) منذ احتلال الحرم المكي والكعبة المشرفة على يدي الإرهابي جهيمان العتيبي عام ١٩٧٩ وحتى الإرهابي (الكامن وليس النائم) محمد الشمراني في فلوريدا عام ٢٠١٩. ثلاثون عاما وما زلنا في تيه نسأل الله أن ينتهي على خير في العشرية الأخيرة!

خلاصة المؤتمر الصحافي الذي تطرق في جانبه الآخر ردا على أسئلة الصحافيين على قضية مدير الاستخبارات العسكرية الأميركي السابق الفريق مايكل فلين، وتلك مسألة قد أكرس لها مقالة بذاتها، الخلاصة ليس خلافية بل قطعية بدهية وهي:

 “إن ارتبت بشيء قل شيئا” وهي حملة أطلقتها وزارة الأمن الوطني الأميركي وكرست له يوما وطنيا أطلق عليه اسم “يوم الوعي” سنويا في الخامس والعشرين من سبتمبر. والسؤال الصارخ المتكرر مع كل فاجعة أمنية: أين كنا عندما كانت تلك الأفاعي والحرابي فراخا؟ هل يعقل أننا لم نتمكن من لمح ولا أقول رصد كل “العلامات” على “طريق” الإرهابيين – وملتهم كما نعلم من واقع التجربة لا التنظير الأيديولوجي- ملّتهم كلهم واحدة: مجرمون قتلة يفاخرون بأنهم “يرهبون” من يرون فيه “عدوا” لما يدعون “الولاء” له و “البراء” مما سواه.

الصحافة الأميركية وقبل أن يهدأ غبار حطام برجي التجارة العالمية في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ أثار قضيتين ما زالتا في نظري قطبي رحى المحاربة الكفؤة للإرهاب: القطب الأول هو “لماذا يكرهوننا”؟ كما تساءل الكاتب الصحافي المخضرم توماس فريدمان، أما القطب الأهم لكونه قطب الرحى المتحرك فهو “لماذا أخطأنا الأعلام الحمراء”؟

ما زلت أذكر قبل ما يزيد على ثلاثة عقود وقبل عقدين من اختصاصي بدراسات السلام وحل النزاعات، ذلك المحترم الذي أفضل عدم ذكر اسمه، وقد فاجأنا نحن طلبة مساق “ثقافة عسكرية” كأحد المتطلبات الاختيارية في الجامعة الأردنية، بأنه أحد فرسان دائرة المخابرات العامة. عرض مقدمة فلسفية تاريخية لمفهوم العمل الاستخباري ومن ثم دخل في البعدين الوطني والإنساني وعرفت يومها لأول مرة في حياتي مفهوم “التاون هول ميتينغ” أو اللقاء الجماهيري المفتوح: حوار مباشر دون قيود أو تكلف مع ضابط استخبارات بزي مدني يتحدث بلسان أردني فصيح – مازج باحتراف بين العديد من اللهجات شمالا وجنوبا شرقا وغربا، حضرا وريفا وبادية- لأحد أمرين: إما للتكتم على شخصيته وإما وهو الأرجح الوصول إلى قلوبنا قبل عقولنا كشباب “من شتى المنابت والأصول” كلمة سيدنا الراحل الحسين العظيم، ملك المملكة الأردنية الهاشمية المعروف لدى الأردنيين بالملك الباني.

لم يغب عن بالي ذلك الضابط الأردني كلما تابعت حدثا إرهابيا كصحافي، تعلمت منه أن من أكثر مزايا ثقافتنا الوطنية كعرب هي “الفراسة”. نحن بإرثنا البدوي “حمر نواظر” لا نخطأ أبدا “الأعلام الحمراء”. هذه هي المعركة الأساسية، معركة وعي وإدراك قبل أن تكون إرادة لكسب المعركة. فكل أدوات العمل الاستخباري والقوة العسكرية والاقتصادية والمعرفية بما فيها التقنية لن تتمكن من تعويض العنصر الاستخباري البشري الميداني. صحيح أن “الدرون” تمكنت من الانطلاق من إحدى القواعد الأميركية في الشرق الأوسط بأمر صادر من قاعدة ما في ولاية أريزونا أو فلوريدا لكن الإحداثيات التي تطلق الصواريخ الذكية من خلالها كانت في بداية الأمر التعرف على أن أنور العولقي هو من الإرهابيين الذين أخطأنا في رصد الأعلام الحمراء الصادرة عنه عندما كان إمام مسجد في ولاية مينيسوتا الأميركية وكذلك أخطأنا من بعد الرائد في الجيش الأميركي، الأميركي من أصل أردني فلسطيني نضال حسن الذي استلهم إرهابه من العولقي الأميركي من أصل يمني، وهكذا تعاقبت احتفالات يوم الوعي الوطني عاما بعد عام حتى وجدنا أنفسنا أمام كارثة أخرى في فلوريدا حيث تبين أن الضابط السعودي الشمراني على ارتباط بتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية!

كأردني أميركي افتخر بإرثي وتراثي البدوي أسارع فأقول إن “حمر النواظر” تسمية قوامها “غضبة الشجعان” أو “شجاعة الغضب” هذا أمر حسن في عالم محاربة الإرهاب التقليدي عندما كانت معاركنا مع قطاع الطرق والضباع لكن وحوش اليوم في معركة محاربة الإرهاب قوامها كشف العلامات التي تميز الذئاب الحملان فهي ليست خلايا نائمة وإنما كامنة لها علاماتها أفرادا ومرتعا ومنشطا.

في زمن محاربة كوفيد التاسع عشر وأفضل سياسيا تسميته بفايروس ووهان، برزت أداة مشابهة لكاشف المعادن والمتفجرات أثناء التفتيش الشخصي لزوار المرافق والمباني الحساسة. إنه كاشف الحرارة التي يتم وضعه قبالة جبين العابر للتحقق من عدم ارتفاع حرارة جسمه بما يرسل علامة حمراء تستدعي “الكشف والفحص.”

ترى لو استخدمتنا هذا الجهاز مع الشمراني هل كان بإمكاننا التعرف على أنه يحمل فايروس كورونا أو الإرهاب؟ إن لم تكن كورونا قد ظهرت في نسختها الجديدة في ذلك الشهر من العام الماضي فإنه قطعا كان حاملا لفايروس الإرهاب. لا بل وكان بإمكان كشفه قبل قبول طلبه الالتحاق بسلاح الجو الملكي السعودي.

المسألة في غاية البساطة، تكفي الإجابة بنعم أو حتى التردد في الإجابة على أحد الأسئلة التالية: لقي نجم كرة السلة الأميركي كوبي براينت حتفه في حادث تحطم طائرة عمودية، هلا ترحمت معي عليه يا شمراني؟ هل تؤيد يا شمراني طرد متطوع قطري لعامل فقير غير مسلم من على مائدة إفطار الصائم؟ هل تبارك زواج من يقل عمرها عن ثمانية عشر عاما بعريس قادر على انتشالها من الفقر بصرف النظر عن الفارق السني وكونه “مطلاقا مزواجا؟”

تجربتي الشخصية عند مقارنة حياتي في الأردن وبريطانيا وأميركا في التعامل مع هذه المسألة صحافيا وأكاديميا تشير إلى أن أخطر ما يسبب ضياع فرص سحق الإرهاب في وكره هو غياب الوعي والإدراك. ما لم نحسن التشخيص لن نتمكن أبدا من العلاج وإن أدركناه كان “قليلا كثيرا ومتأخرا كثيرا” كما يقال بالإنجليزية.

هالني خلال زيارة إلى لندن قبل سنوات من اعتداء السابع من تموز عام ٢٠٠٥على محطات قطارات الأنفاق أشكال بعض غلاة المتأسلمين في لباسهم وشاكلتهم. أبديت استيائي لمضيفي وأحدهما يتقلد منصبا مرموقا في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من السكوت إعلاميا على هذه الظواهر. تعذر عن تقصيره بذرائع تتعلق بالعولمة والتعددية والحريات العامة، فقلت له هذه “لندنستان” وهو اسم تداوله كثيرون تعبيرا عن امتعاضهم وارتيابهم من تنامي وتمادي ليس فقط دعوات التطرف بل والإرهاب أيضا.

سألني مضيفي يومها: لو كنت صاحب قرار إعلامي أو أمني ما هو موقفك؟ سارعت بالقول: لدينا في الأردن فرع اسمه “الأمن الوقائي” لا أظنه سيبخل عن استضافتهم على فنجان قهوة! ضحكنا ولن أذيع سرا إن قلت أنهما أبديا حسرتهما لعدم وجود “أمن وقائي” في بريطانيا العظمى.

بشار جرار كاتب وباحث أمريكي من أصولٍ أردنية متخصص في قضايا السلام وحل النزاعات.


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply