عالم ” ما بعد داعش “

0

57af36b9991e61778963133

كُتب عديد الدراسات والتحليلات الانطباعية حول العلاقات المتبادلة بين: العولمة والإرهاب العالمي والتطرف الديني؛ وثمةَ قدرٌ متنامٍ من أدبيات العلاقات الدولية ونظرية العولمة والديانات المقارنة، حول الموضوع. ويلاحظ أن هذه الدراسات مرتبطة بموجات ظاهرة الإرهاب العالمي الحديثة بمختلف أنماطه وأشكاله وأنواعه ومنطلقاته وخلفياته المعرفية، وبزخم الكتابات والمراجعات والتغطية الإعلامية.

بيد أن معظم هذه الدراسات الرئيسة التي تناولت هذه الظواهر خاصة من علماء ومنظري العلاقات الدولية، تناولت الموضوع من وجهة نظر النظرية الواقعية التي تفترض منهجياً أن عالم الدول محكوم بالقوة، وتعبث بأركانه الفوضى وتقض مضاجعه معضلة الأمن.

ولعل ما يعطي الواقعية – بكل أطيافها – هذا البريق والتجدد الدائم وكأنها طائر الفنيق هو هذا الميل الإنساني المستمر للحرب والتطرف والعنف، حيث تبدو الواقعية هي الأقدر على تفسيره، رغم كل النقد الذي يوجه لها، فمثلاً ظل (كينث ولتز) أهم منظري الواقعية في هذه الحقبة الحالية من العولمة حتى وفاته، يؤكد أن ظاهرة الإرهاب الحالية (حتى بعد قيام تنظيم القاعدة بهجمات 11/أيلول/2001م) لم تتغير في سلوك الدول أو بنيتها؟

وقليلة هي الدراسات والأبحاث التي حاولت مقاربة تلكُم الظواهر؛ فالتفتت إلى العلاقات المتبادلة بينها من منظور سيرورة العـــولمــــة الملتبسة؛ لأنها انطلقت من منظور أيديولوجي متحيّز سلفاً يقلل من شأن آثار الإرهاب العالمي ويهاجم العولمة ويحط من شأنها ولا يراها إلا رأس غول آخر لما يطلق عليه – جزافاً – الليبرالية المتوحشة، وهناك محاولات – قد تكون بريئة – تحاول ترسيخ هذا الوجه القبيح للعولمة وعصرها وتحجيمها لتكون فقط مجرد سياسة، أو أيديولوجية، أو قاطرة اقتصادية هاربة منفلتة تتجاوز الحدود القومية للدول.

ومن أطرف ما قرأت بهذا المجال، تعريف العولمة في قاموس المورد الحديث الصادر عن دار العلم للملايين طبعة 2013 م، حيث يقول:

العَولَمة أو الكُرَوِيّانيّة: سياسة تعتبر العالم كلّه، أو الكرة الأرضية كلها، ميداناً صالحاً للنفوذ السياسي، وتسعى إلى توحيد المعايير الحضارية والاقتصادية بين مختلف الدول.

وبعيدا عن قضية الانشغال بإشكالية نحت المفاهيم والمصطلحات مثل(الكُرَوِيّانيّة) ووجهة نظري الشخصية حيالها، إلا أنني أراني أرفض بشدة التعريف أعلاه؛ وببساطة لأن العولمة ليست سياسة، لا بالمعنى العملي ولا الإجرائي، كما أن العولمة سيرورة كلانيّة أكبر من مجموع أجزائها وآلياتها السياسية أو الاقتصادية.

يقول (ريتشارد نيد ليبو) في دراسة له بعنوان (لماذا تتحارب الأمم: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل 2013م) إن النظريات الفاعلة على مستوى الوحدات وعلى مسـتوى الأنظمـة على حـد سـواء بحاجـة إلى تفسيرات أو نظريات أو فرضيات مساعدة إضافية وهذا يدفعني للقول بأننا بحاجة إلى نظريات على مستوى أوسع واعمق يكون فيها العالم وحدة التحليل؛ أي أننا نريد نظريات بحجم العولمة.

والعولمة التي أقصد؛ تمشي على الأرض، لا رطانة ملتبسة مشبعة بالتنظير والجمود، عولمة قادرة على تحمل الشكوك والحذر والتوجس والخوف، وتعطي الناس العاديين والمهمّشين الأمل، وتمنحهم الأمن وتدفعهم للإيمان بها وبنواياها الطيبة وتدفعهم للدفاع عنها وحمايتها من الغلو والتطرف والإرهاب، عولمة؛ لا سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية ولا ثقافية فقط؛ بل عولمة كُلانّية أكبر من مجموع أجزائها وتجلياتها.

عولمة نشتم رائحتها ونشعر بها ونسمعها ونتذوقها في الشوارع والأزقة والحواري الضيقة في المدن والأرياف والبوادي، متخطيةً للحدود على اتساع الكون كله، عولمة تدفع البشر للحرية والمساوة وكسر قيود الواقع والحواجز الوهمّية باسم الدين والجنس والعرق والقومية ولون البشرة، والوقوف والصراخ بوجه الظلم والطغيان وامتهان كرامة البشر.

وعلى الرغم من أن المؤشرات الكمّية المختلفة لا تزوّد الدارسين والباحثين بإجابات قطعية حول العلاقة بين الظواهر الثلاث، إلا أن الانطباعات التي ترسخت حد “المسلّمات” ترسم خطوط تواصل متينّة بين ظاهرتي التطرف والإرهاب العالمي، مع التركيز الشديد على أنَّ التطرف الديني محرك ذو وزن نسبي كبير ومؤثر في الإرهاب العالمي، وأعتقد أنَ انفلات دورة التطرف والإرهاب الحديثة عقب ثورات الربيع العربي مؤشرٌ قوي على ذلك.

وفيما تلعب آليات العولمة التكنولوجية أدواراً واسعةً وعميقة في الإحساس بظاهرة العولمة وإدراكها والتفاعل معها بشكلٍ متزامن وآني يتخطى الزمكان، تبدو ظاهرتا التطرف والإرهاب العالمي -إلى حدٍ بعيد – خاضعتين لمنطق الدورات الذي قصده (نيكولا كوندراتيف) ويحفزها الصراع والتنافس على المسلمّات ذات الطابع الديني التي لا زالت تؤثر في بنية النظام الدولي المعاصر وسلوكه.

ويؤكد عالم الأديان (خوسيه كازانوفا) أن العالم طوال عقد الثمانينيات لم يشهد أزمة سياسية ذات شأن في أحد أرجاء العالم لا تقف وراءها يد الدين، حيث أصبح الدين عاماً ودخل النطاق العام وكسب بذلك رواجاً. وفجأة، صارت جماهير متنوعة من سياسيين ووسائل إعلام وعلماء اجتماع تعير الدين انتباهاً[1].

ومبعث اهتمامي بهذه الملاحظة العميقة هو أن عقد الثمانينيات شهد انطلاقة سيرورة العولمة بالشكل الذي نشهده حاليا؛ وبالمعنى الذي نقصده هنا.

ويمكن القول إن الإرهاب العالمي ارتبط بعلاقة تبادليّة موجبة مع ظاهرة العولمة، وكانت الظاهرة الأكثر خطورة وحضوراً في المشهد العالمي خلال العقود الثلاثة الماضية منذ تفجير السفارة (الأمريكية) ومقر (المارينز) والجنود (الفرنسيين) في بيروت (1983م) حتى أحدث دورة في موجات الإرهاب ممثلة بتنظيم داعش، وإعلان أبي بكر البغدادي الخلافة الإسلامية في نينوى – العراق، رغم أن أهم منظري السلفية الجهادية في العالم في العصر الحديث الأردني عاصم محمد طاهر العتيبي – أبو محمد المقدسي (12/تموز/2014) وعمر محمود عثمان – أبو قتادة قد عارضا خلافة داعش، إذ وصفها المقدسي بأنها (سفك للدماء) ووصفهم أبو قتادة بأنهم (خوارج العصر)، بينما وصفهم زعيم القاعدة الحالي / ايمن الظواهري 2016م بأنهم ورثة الخوارج وضباط بعث العراق.

إن أهم دافع ومحرك للعنف والتطرف والإرهاب القائم والمرتكز على الإيديولوجية الأصولية الإسلاموية السياسية الدينية هو القناعة الدينية العميقة والمتينة جدا وطموح أو أمل بإعادة أمجاد الخلافة الإسلامية الراشدة؛ أو هي بالنهاية معراج للجنة ولقاء الحور العين.

وأرى؛ أن المقاربة التي تدعي أن الذين ينتمون لهذه التنظيمات يتعرضون لغسل دماغ أو أنهم فقراء معدمون لا يجدون قوت يومهم وعاطلون عن العمل أو مهمشون؛ هي مقاربة مظللة وخاطئة تنزع عنهم الحافز والإدارة والتخطيط وحرية الإرادة والعقلانية.

ويلاحظ في ظل حقبة العولمة الحالية؛ وأبرز تجلياتها ثورات الربيع العربي أن التطرف والإرهاب العالمي يرتديان حلة إسلامية تمتد وتتشابك خيوطها وتكاد أن تصل كل مكان في العالم، حيث التطرف والإرهاب الذي يتخذ الإسلام واجهة له يضرب من آسيا إلى إفريقيا إلى (أوروبا) إلى (أمريكا) مركزاً على ما يسمى بالدول الفاشلة أو الهشة والأطراف والأركان البعيدة والرخوة كحواضن له، هذا رغم أن بعضهم يصر على القول إن المسلمين وقد تجاوز عددهم (1,62) مليار مسلم أي ما نسبته (23%) من سكان العالم لا يمثلون مجموعة موحدة، ولهم وجهات نظر مختلفة لمقاربات الحياة؛ وأن ظاهرة الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) مبالغ فيها.

طبعا؛ هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أن ليس هناك غلو وتطرفات دينيه أخرى غير الإسلام، بل هناك أطياف واسعة من أشكال التطرف في مختلف الديانات التي باتت تتقاسم “الفضاء العام” للحياة والدين.

فهذا القس (الأمريكي) (جون هاغي) متطرف مسيحي صهيوني ومؤسس المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل الذي ترعاه كنيسته الضخمة وشبكته الإعلامية في (تكساس) يدّعي أن مرض (إيبولا) هو عقوبة إلهية لتقسيم القدس التي يرعاها الرئيس (الأمريكي باراك أوباما)، أما القس (الأمريكي) (رون بيتي) فعلل ظهور مرض (إيبولا) بالسماح للمثليين بالزواج في بعض الولايات الأمريكية؟

وتشهد حقبة الإرهاب العالمي الحالية كثيراً من الاتجاهات الجديدة والمميزة، منها أن؛ دولاً مثل (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا والسويد والنرويج والدنمارك) أصبحت تُصدّر المتطرفين والإرهابين الإسلاميين إلى مناطق الصراع التي فتحت ثورات الربيع العربي أبوابها وخاصة في العراق وسوريا، التي يرى (بريان فيشمان) خبير الإرهاب (الأمريكي) في أكاديمية (ويست بوينت) أنها تشكل مأوى آمناً للإرهابين، ويقدر عدد المقاتلين الإسلاميين فيها من كل أنحاء العالم بحوالي (80) ألفاً، ووفقا لبيانات ودراسات وكالة المخابرات الأمريكية المركزية (CIA) والمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي (I.C.S.R) وهو شراكة من خمس جامعات مقرّه جامعة (كينغز كوليدج) في (لندن) ونشر في صحيفة (واشنطن بوست 11-10- 2013) فإن عدد المقاتلين الأجانب بلغ (15000) الفاً (80%) منهم من العرب و(الأوروبيين) وينتمون إلى (80) دولة في العالم. كما أكد وزير الخارجية الروسي (ميخائيل بوغدانوف) في تصريح له لصحيفة (كوميرسانت، 29-9-2014) أن مقاتلي داعش ينتمون إلى (80) دولة.

وهذا يعني مدى تعولم الإرهاب وتخطيه للحدود القومية للدول، كما يعني أن هؤلاء سيشكلون مصدر خوف وقلق لدولهم، عندما يعودون إليها بعد أن اكتسبوا خبرات قتالية وعملياتية متنوعة.

لقد أكد التقرير السنوي لمكتب مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الخارجية (الأمريكية) حول الإرهاب العالمي الذي نشر في (نيسان- 2014م)، الذي يرصد أهم تطورات واتجاهات الإرهاب العالمي، أن تنظيم القاعدة والتنظيمات المتفرعة منه أو التابعة له، لازالت تشكل تهديدا لـ (أمريكا) وحلفائها في العالم، وأن هناك زيادة في عدد مقاتلي تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية الأخرى، ومن أهمها وأخطرها في الحقبة الحالية من العولمة (داعش)، التي استفادت من ضعف الدول في هذه المنطقة لاسيما عقب ثورات الربيع العربي، حيث تشير أحدث تقديرات المخابرات الأمريكية في أيلول 2014 أن مجموع مقاتلي داعش في سوريا والعراق يتراوح بين 20ألف إلى 35 ألف مقاتل.

ولفت التقرير الانتباه إلى أن تهديد الإرهاب في ازدياد، بل قد تطور بسرعة عام (2013) من خلال ازدياد عدد الجماعات الإرهابية حول العالم؛ ممثلة بتنظيم القاعدة والمنظمات الإرهابية الأخرى – وأحدثها (داعش)، الذي برز في سوريا أولا، ثم فاجأ العالم منتصف حزيران (2014) حينما سيطر على الموصل وبعض مناطق العراق وسوريا، وأعلن إقامة الخلافة في نينوى – حيث ازداد عدد الهجمات الإرهابية بنسبة (43%) عام (2013) مقارنة بالعام (2012) وقدرت بـ (9707) عمليةً عام (2013)، نتج عنها (17800) وفاة و(32500) جريح، وكان أغلبها في أفغانستان والهند والعراق ونيجيريا وباكستان والصومال وسوريا وتايلند واليمن، علماً بأن أكثر هذه الهجمات دموية كان في أفغانستان من قبل مقاتلي طالبان.

لقد عبّر (جيمس كومي) مدير مكتب (التحقيقات الفيدرالية الأمريكي) عن قلقه العميق من وجود آلاف المقاتلين الأجانب في سوريا، مشيراً إلى الميل المتزايد لعشرات (الأمريكيين) وآلاف (الأوروبيين) للسفر إلى سوريا للمشاركة في المعارك هناك، مؤكداً أن الأمر أسوأ من النمط الذي سارت عليه الأمور في الثمانينيات والتسعينيات في أفغانستان عندما شكل المقاتلون الأجانب – خاصة العرب – تنظيم القاعدة، وأن الأمر يزداد سوءاً مع مرور الوقت متوقعاً خروج المقاتلين في مرحلة ما من سوريا متأثرين بأفكار القاعدة، وقال مسؤولو أمن واستخبارات (أمريكيون) و(بريطانيون): إن كثيراً من الهجمات الانتحارية في سوريا والعراق ينفذها مقاتلون عرب وأجانب وخاصة من (أوروبا)، وذكر تقرير صادر عن جهاز المخابرات (الهولندي) في (23/4/2014) أن (هولنديين) اثنين نفذا هجومين انتحاريين في العام (2013) في سوريا والعراق، وذكرت تقارير أخرى أن مواطنين من (الدنمارك) وآخر من (طاجكستان) نفذا عمليات مشابهة، ويلعب “الجهاديون” المتحدثون بالإنجليزية الدور الأبرز في هذا المجال.

وقد كشف وزير الخارجية (البلجيكي) في تصريحات لإذاعة (RTL، 12/1/2014) أن مجموع (الأوروبيين) والشباب المقيمين في (أوروبا) الذين توجهوا إلى سوريا للقتال في صفوف المعارضة يتراوح بين (1500) و(2000) شخص، موضحاً أن من بينهم (200) من (بلجيكا) وحدها، وقد قُتل نحو (20) منهم فيما عاد البعض الآخر، وقريب من هذه الأرقام كانت وسائل إعلام (بريطانية) مثل صحيفة (الغارديان 16/4/2014) قد أشارت إلى أن نحو (1900) شخص من (أوروبا) غادروا للقتال في سوريا؛ من بينهم (296) من (بلجيكا) و(249) من (ألمانيا) و(412) من (فرنسا) و(366) من (بريطانيا).

ومن الجدير بالذكر أن هذه الأرقام والإحصائيات تتغير باستمرار وتتفاوت من مصدر إلى آخر، لكنها تعطي مؤشراً على الاتجاه العام للأدوار التي بات يلعبها (الأوروبيون) في بنية الإرهاب الإسلامي العالمي وهيكليته.

والمرعب في الأمر أن هؤلاء (الأوروبيين) ينضمون إلى الجماعات الأكثر تطرفاً؛ مثل تنظيم “داعش” الذي تشير دراسة أعدها المعهد الملكي في (لندن) ونشرتها مجلة (فوكس الألمانية) بتاريخ (16-6-2014م) إلى أن هناك (3000) مقاتل من الدول (الأوروبية) يقاتلون معه في العراق.

وقد أكد (جيل كيرشوف) المنسق (الأوروبي) لمكافحة الإرهاب في تصريحات خطيرة نشرتها (وكالة الصحافة الفرنسية 25/9/2014) أن عدد الجهاديين (الأوروبيين) الذين توجهوا إلى سوريا والعراق للقتال قد ارتفع إلى نحو (3.000) مقاتل مشيراً إلى أن معدل التدفق لم يتراجع، وخاصة بعد إعلان تنظيم داعش قيام دولة الخلافة وأن معظم هؤلاء جاؤوا من (فرنسا، بريطانيا، المانيا، بلجيكا، هولندا، الدنمارك، السويد إسبانيا وإيطاليا وإيرلندا، والنمسا).

وإن بين (20% و30%) من المواطنين (الأوروبيين) أو المقيمين في (أوروبا) عادوا إلى دولهم، واستأنف بعضهم حياتهم الطبيعية، لكن آخرين يعانون من صدمات، بينما هناك قسم متشدد منهم يشكل تهديداً، مضيفاً أن الخوف ليس من هجوم واسع على غرار اعتداءات (11/ أيلول/2001) ضد أمريكا، بل من فرد مزود برشاش يمكنه أن يسبب أضراراً كبيرة، وتوقع (كيرشوف) حدوث عمليات انتقامية بعد تشكيل التحالف الدولي ضد داعش في سوريا والعراق.

وتشكل هذه الظاهرة مصدر قلقٍ كبير للدول (الأوروبية) بسبب الخوف من احتمال تنفيذ العائدين من هؤلاء لعمليات إرهابية في (أوروبا)، ولفت الوزير (البلجيكي) إلى ثغرة قانونية تتمثل بعدم وجود قوانين في الدول (الأوروبية) تنص على معاقبة من يذهب للقتال في سوريا، باستثناء القانون (الفرنسي).

لكن المضحك المبكي؛ أن (فرنسا) تعرضت لهجومٍ إرهابي عنيف جداً من هذا النوع بتاريخ (9كانون ثاني – 2015) ذهب ضحيته (12) شخص من كوادر صحيفة (شارلي ابدو) بحجة قيامها بنشر رسومات مسيئة للنبي محمد والسخرية من المسلمين.

وأمام العودة المنتظرة للمقاتلين من العراق وسوريا، فإن (أوروبا) تواجه الموّجة الرابعة من الجهاديين، فقد كانت الموّجة الأولى تتمثل بعودة الآلاف من الذين ذهبوا لقتال الاتحاد (السوفييتي) في أفغانستان، حيث شكلت سنوات التسعينيات بداية تغلغل الفكر السلفي في (أوروبا)، وتمثلت الموجة الثانية بانتقال كثيرين إلى (البوسنة والهرسك) لمقاتلة (الصرب)، وجاءت الموجة الثالثة من الجهاديين (الأوروبيين) بعد تفجيرات (11/أيلول/2001) عندما التحق مقاتلون قدماء وشباب جدد بحركة طالبان لمقاتلة القوات الغربية وخاصة (الأمريكية) و(البريطانية)، كما شملت الموجة الثالثة المقاتلين الذين توجهوا إلى العراق الذي عد بمثابة مدرسة لتفريخ خبراء تفجير السيارات والعمليات الانتحارية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى عولمة الإرهاب، إذ إن هذه قضية مفزعةٌ ومقلقةٌ جدا للسياسة العالمية وللدول الغربية وأجهزتها الاستخبارية خشية من عودة هؤلاء إلى بلدانهم ونشر الفوضى والتطرف وجعل الساحات الغربية مسرحاً مفتوحاً لنشر التطرف والإرهاب، وهو أمرٌ أتوقع حدوثة بشكل واسع وعميق خلال العقدين القادمين.

ويترافق ذلك مع بروز اتجاهات حديثة في الإرهاب العالمي طابعها تركيز شديد دقيق ومنظم وعميق باتجاه شيطنّة مفهوم الجهاد في الإسلام في الأدبيات التي تتناول الظاهرة خاصة (الأمريكية) في المجلات المتخصصة ومراكز الدراسات (مركز ستريتفور Stratfor ومركز رند Rand، ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وForeign Affairs Magazine، وForeign Policy Magazine) إذ يُستبعد مفهوم الإرهاب المخيف البغيض ويستبدل بمفاهيم جديدة مثل: الجهاد، المجاهدين، الجهاد العالمي، والجهادّية وتنويعات أخرى، بمعنى أنه عندما يتم الحديث عن العمليات الإرهابية في العالم يستخدم مفهوم “الجهاد العالمي”، وجماعات الجهاد العالمي.

هذا مع الوقت والتركيز والتكرار المكثف والمستمر في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها المركزية الغربية مستفيدة من آليات العولمة التكنولوجية، فإن الذهن والأذن يألفان انزياح ثم اختفاء لمفهوم الإرهاب كلياً، ويحل مكانه الجهاد أو أن يصبح مقترناً به ثم تدخل المفردة كما هي في اللغة العربية قاموس اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى، وتتوارى تدريجياً كلمة إرهاب من الاستخدام أو تهمل خاصة أن تجارب التأريخ وبالذات عند التاريخ لمفهوم الإرهاب تدل على ذلك؛ لأن المفهوم أصلا تطور بعد الثورة (الفرنسية) من مفهوم إيجابي إلى آخر سلبي كما هو مستخدم حالياً، مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الالتباسات والتشوهات التي مازالت ترافق جسم هذا المفهوم، منذ ولادته الأولى باللغة (الفرنسية).[2]

كما يلاحظ أنه وبالقدر الذي تتوسع فيه ظاهرة التطرف، وتنتشر بفعل آليات العولمة التكنولوجية عبر (الأنترنت) ووسائل التواصل الاجتماعي تتغير وتتطور وتتعقد مؤشرات الإرهاب العالمي، ولقد أكد تقرير وزارة الخارجية (الأمريكية) حول الإرهاب (2014م) أن المتطرفين توسعوا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أفكارهم وتبادل الخبرات والأفكار والتعليمات والتجنيد والتوجيه، وقد كشفت دراسة قام بها الأكاديميان البريطانيان (شيزار ماهر) و(جوزيف كاريتر) من المركز العالمي لدراسة التطرف والعنف السياسي على مدى (18) شهراً، ونشرتها صحيفة (الغارديان 16/4) أن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وبرنامج (سكايبي) كانت الأداة الرئيسة لتجنيد دفعة من الجهاديين الجدد في (أوروبا) و(أمريكا)، وذلك عبر الترويج للجهاد في سوريا وجمع التبرعات المالية عن طريق تلك الوسائل، ولفتت الدراسة إلى أن المقاتلين الأجانب الذين انضموا للقتال في صفوف فصائل المعارضة السورية خلال العام (2012) كانوا جميعهم مشاركين فاعلين على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد استطاع تنظيم (داعش)أن يتفوق في مجال الدعاية الجهادية ضد الغرب؛ فقد فاجأ الجميع بقدرته وتقنيته العالية في مجال الدعاية للجهاد عبر (الإنترنت) سواء باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر أو يوتيوب)، حيث يسير التنظيم وفق أيديولوجية متماسكه وإصرار بالغ على الدعاية الجهادية عبر شبكة )الإنترنت)، في مقابل ذلك يسعى الغرب وكذلك العرب للتحالف لإضعاف قوة وسائل الإعلام الداعشية.

لكن هذه المحاولات لن تجدي نفعا، لأن هذه الدول بحاجة ماسة إلى أساليب جديدة تتجاوز إغلاق حسابات (تويتر) الفردية، وإزالة أشرطة (الفيديو) من (اليوتيوب) وبخاصة أن الجماعات الجهادية وتحديدا (داعش)، باتت قادرة على الحفاظ على استمرار وجودها عبر (الإنترنت) من خلال تبادل المحتوى عبر شبكة واسعة من المجاهدين عبر الإعلام في تجسيد لما يسُمى بالحرب (الإلكترونية)، تستخدم داعش استراتيجية قوية لنشر المحتوى السمعي والبصري، من خلال شبكة مترابطة تعيد تكوينها باستمرار، فضلا عن أن لديها متخصصين في هذه الحرب (الإلكترونية) وبالتالي فإنهم يعيدون تشكيل أنفسهم بشكل سريع إذا تعرضوا لأية محاولة لاستهداف حساباتهم.

وفي مؤشرٍ على الدور الكبير والخطير لشبكة (الإنترنت) في نشر التطرف وتجنيد الجهاديين في (أوروبا)، فقد أعلن متحدث باسم المفوضية (الأوروبية) أن الاتحاد (الأوروبي) سيطلب من عمالقة (الأنترنت) وخاصة (غوغل) و(فيسبوك) و(تويتر) مساعدته في محاربة التطرف والجهاديين في المواقع (الإلكترونية).

ولذلك عقد في (لوكسمبورغ، 8 /10/2014) اجتماع بين: (سيسليا مالمستروم) المفوضة (الأوروبية) المسؤولة عن الشؤون الداخلية ووزراء داخلية دول (أوروبية) وممثلين عن شركات (الأنترنت) لبحث الأدوار والتقنيات التي تسمح بالرد على نشاطات الإرهابيين على (الإنترنت) والطريقة التي يمكن للمؤسسات الخاصة والحكومية التعاون من خلالها. (موقع دويتشه فيليه الألماني، 9/10/2014)[3].

كلما توسعت وتعمقت سيرورة العولمة؛ تعمق التغير في النظام العالمي الذي نعرفه حاليا، وتغيرت كذلك الأمر كثير من الفرضيات والمسلمّات التي تحكم السياسة العالمية، وتغيرت مقاربات دراسة العولمة والإرهاب والتطرف ومغادرة “الحكمة التقليدية” التي أصبحت من مخلفات الحرب الباردة.

وكلـما تمـاهى؛ وانـدمج الإرهابيون مـع آليـات العولمـة التـكنولوجية وزادت أهـمية الأطراف الفاعلة من غير الدول مثل الجماعات الإرهابية، وسَهُل وقل عدد المنفذين وأصبح بمقدور شخص واحد -ذئب منفرد – تنفيذ أعمال إرِهابية واسعة التأثـير والانتشار وتحولت (التكـنولوجـيا) كبـديل للملـهم البـشـري الـذي يتـمثل بالـشيخ أو القــائد أو الـمعلم، وزوّدت المتطرفين بالعون والخبرة والتوجيه وكيفية صناعة أدوات الإرهاب المدمرة؛ كلما أصبحت جهود مكافحة الإرهاب الدولية والعالمية عملا مضنياً وسباقاً محموما تتفوق فيه الأطراف الفاعلة من غير الدول (الجماعات الإرهابية) على فُردى الدول والتحالفات الدولية.

لا بل وتحولت الأجهزة الأمنية المختلفة المكلفة بمكافحة الإرهاب وبالعمل الوقائي والحيلولة دون تنفيذ الأعمال الإرهابية قبل وقوعها إلى مجرد أجهزة ودوائر للمطافئ.

فلم يعد هناك أهمية لوجود ملفات معدة وجاهزة للإرهابيين، أو وجود البناء الهرمي التراتبي للتنظيمات الإرهابية، والاجتماعات السرية والخلايا والعلاقات الخيطية، أو التثقيف والنقاء الفكري والأيديولوجي والالتزام الديني.

إنّ التجارب الأخيرة لعمليات تنظيم داعش 2015و2016 خاصة في فرنسا وبلجيكا تؤكد – حسب وجهة نظري – أنه لم يعد مهما أن تكون ملتزما دينيا حتى تنفذ عمل إرهابيا باسم داعش؛ فالفكرة العولمّية تكفي. ولعل عملية نيس – فرنسا التي استخدم فيها أسلوب دهس المواطنين العزل، والتي قتل فيها 84 شخص وإصابة قرابة 100 التي نفذها محمد ابوهلال بتاريخ 15تموز 2016م أحدث دليل على ذلك.

 

*سبق أن نشرت على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث


[1] كازنوفا، خوسيه، (2005)، الأديان العامة في العالم الحديث، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت.

[2] الشَرَفات، سَعود، (2016)، الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتضارب المسلمات في ظل العولمة، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى.

[3] المرجع السابق.


About Author

Saud Al-Sharafat ,Phd https://orcid.org/0000-0003-3748-9359 Dr. Al-Sharafat is a Brigadier-General (Ret), Jordanian General Intelligence Directorate (GID). Member of the National Policy Council (NPC), Jordan, 2012-2015. The founder and director of the Shorufat Center for Globalization and Terrorism Studies, Amman. His research interests focus on globalization, terrorism, Intelligence Analysis, Securitization, and Jordanian affairs. Among his publications: Haris al-nahir: istoriography al-irhab fi al-Urdunn khelall 1921-2020} {Arabic} {The River Guardian: the historiography of terrorism in Jordan during 1921-2020}, Ministry of Culture, Jordan, www.culture.gov.jo (2021). Jordan, (chapter)in the Handbook of Terrorism in the Middle East, Insurgency and Terrorism Series, Gunaratna, R. (Ed.), World Scientific Publishing, August 2022, 47-63 https://doi.org/10.1142/9789811256882_0003. Chapter” Securitization of the Coronavirus Crisis in Jordan, “Aslam, M.M., & Gunaratna, R. (Eds.). (2022). COVID-19 in South, West, and Southeast Asia: Risk and Response in the Early Phase (1st ed.). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003291909

Leave A Reply